التخطي إلى المحتوى الرئيسي

‬رحالة القرن

قصة أندريس نيومان*
ترجمة أحمد عبد اللطيف

كانت جيبة صوفي جوتليب تهمس في الممر‮. ‬أثار هذا الصوت الحساس بعض الشوق داخل هانس‮. ‬بعد عدة ثوانٍ‮ ‬عبر طيف صوفي من ظلال الممر إلي ضوء الصالة‮. ‬ابنتي،‮ ‬صاح السيد جوتليب،‮ ‬أقدم لك السيد هانس الذي جاء لزيارة المدينة‮. ‬السيد المحترم هير هانس،‮ ‬أقدم لك صوفي،‮ ‬ابنتي‮. ‬حيته صوفي بحاجب مقوّس‮ . ‬غزت هانس حاجة ملحة لمدحها أو للركض من هناك‮. ‬ودون أن يعرف ماذا يقول،‮ ‬نظر إليها بحماقة‮: ‬لم أتخيل أن حضرتك صغيرة هكذا يا آنسة جوتليب‮. ‬يا سيدي المحترم،‮ ‬أجابتْ‮ ‬هي بلا مبالاة،‮ ‬سنتفق أن هذه ميزة لا إرادية‮. ‬شعر هانس بعمق أنه أحمق وعاد ليجلس من جديد‮. ‬
فقد هانس صوته،‮ ‬ضاعت منه عباراته‮. ‬حاول أن يستعيد نفسه‮. ‬أجبره رد صوفي المؤدب والساخر علي تعليق آخر له،‮ ‬أحد هذه التعليقات‮ ‬غير المناسبة التي يطلقها الرجال لجذب مشاعر محدثته سريعاً،‮ ‬علي تغيير استراتيجيته‮. ‬ولحسن الطالع،‮ ‬اقتربت إلسا،‮ ‬خادمة صوفي،‮ ‬لتقديم الشاي‮. ‬افتتح هانس والسيد جوتليب وابنته جولة من الحوارات العامة الصارمة‮. ‬لم تكن صوفي تتدخل كثيراً،‮ ‬لكن هانس بشكل ما كان يشعر أنها تحدد إيقاعه‮. ‬وفضلاً‮ ‬عن رؤيته لسلوكها السابق،‮ ‬أدهشه طريقة حديث صوفي،‮ ‬كيف تختار كل كلماتها،‮ ‬ناطقة جيداً‮ ‬كل العبارات،‮ ‬كما لو أنها تحكيها‮. ‬عند الاستماع إليها،‮ ‬كان يتأرجح من النبرة للمعني ومن المعني للنبرة،‮ ‬محاولاً‮ ‬ألا يفقد اتزانه‮. ‬في بعض المرات حاول أن يعبر بملاحظة تقطع تركيزها،‮ ‬لكن لم يبدُ‮ ‬أنه اقترب من بُعد صوفي الهادئ،‮ ‬التي رغم كل شيء ركزتْ‮ ‬في شعر هانس الطويل وفي كيف يمسح جبهته عندما يتكلم‮. ‬
أثناء تناوله للشاي،‮ ‬هاجم هانس وسواس آخر‮: ‬يد صوفي‮. ‬ليس شكل يديها،‮ ‬الطويلتين بشكل‮ ‬غريب،‮ ‬وإنما طريقة لمسها للأشياء،‮ ‬قبضها عليها،‮ ‬استجوابها بأناملها‮. ‬عند لمسها لأي شيء،‮ ‬الفنجان،‮ ‬جانب المنضدة،‮ ‬طية الفستان،‮ ‬كانت يدها تبدو أنها تقيس حالتها،‮ ‬تقرأ كل شيء تأخذه‮. ‬عندما تتبع شبح يديها السريع،‮ ‬اعتقد هانس أنه يفهم سلوك صوفي بشكل أفضل وظن أن هذا البُعد الظاهر يحمل في طياته ريباً‮ ‬كثيفاً‮ ‬في كل ما تختبره‮. ‬شعر هانس ببعض الانبساط أمام هذا الحدس،‮ ‬وعبر نحو هجوم خفي‮. ‬ولأن السيد جوتليب كان لا يزال مهتماً‮ ‬بكلامه،‮ ‬أدرك هانس أن الطريقة الأكثر فعالية للحديث مع صوفي سيكون عبر الأجوبة الموجهة لأبيها‮. ‬حينئذ توقف عن محاولة جذبها،‮ ‬واهتم بأن يجعلها تلاحظ أنه لا ينظر إليها،‮ ‬وركز في أن يظهر نفسه طبيعياً‮ ‬وتلقائياً‮ ‬جداً‮ ‬قدر المستطاع مع أبيها،‮ ‬الذي كان يهز شاربه في إيماءة موافقة‮. ‬ويبدو أن هذا التغيير في الوضع أتي ثماره،‮ ‬لأن صوفي أعطت إشارة لإلسا لتفتح الستائر كاملة‮. ‬الضوء‮ ‬غيّر الوتر،‮ ‬وشعر هانس أن نور النهار الأخير يمنحه فرصة‮. ‬تحسست صوفي شاردة فنجان شايها‮. ‬شدت إصبعها السبابة من يد الفنجان ووضعته برقة في الطبق‮. ‬أخذت مروحة يد كانت فوق المنضدة‮. ‬وبينما كان‮ ‬يضحك السيد جوتليب،‮ ‬سمع هانس أن مروحة صوفي تنشر الحظ مثلما في ورق الكوتشينة يحدث‮. ‬
‮ ‬كانت المروحة تنشر الهواء،‮ ‬تحدث تك تاكاً‮ ‬كعقرب الساعة‮. ‬تتمايل،‮ ‬وتفرك‮. ‬تتموج ثانية،‮ ‬وتتوقف فجأة‮. ‬كانت تتجول قليلاً‮ ‬ليُري فم صوفي،‮ ‬وتداريه فوراً‮. ‬لم يتأخر هانس في إدراك أن مروحتها كانت تقوم برد فعل أمام كل عبارة من عباراته،‮ ‬رغم أن صوفي تلتزم الآن الصمت‮. ‬وبينما كان يحاول الحفاظ علي تماسك الحوار مع السيد جوتليب،‮ ‬كان المستوي الأعمق من تركيزه يصب في ترجمة إيماءات المروحة بجانب عينه‮. ‬وبينما يطول لف وكسل الزيارة الأولي المميَزة،‮ ‬لم تكن صوفي تتخلي عن رفرفتها المتجهمة‮. ‬بانتهاء الديباجات،‮ ‬أراد السيد جوتليب حمل الحوار إلي أرض وصفتها صوفي داخل نفسها بأنها ذكورية بتفاهة‮:‬‮ ‬إنه تبادل مفاخرات ليس خفياً‮ ‬جداً‮ ‬وبطولات مفترضة بين رجلين مجهولين في بداية صداقة حميمة‮. ‬كانت صوفي تنتظر من هانس،‮ ‬إن كان عبقرياً‮ ‬جداً‮ ‬كما يبدو أنه يعتبر نفسه،‮ ‬أن يتمكن من تغيير مجري هذا الحوار‮ ‬غير المناسب في أسرع وقت ممكن‮. ‬لكن أباها كان متورطاً،‮ ‬وهي كانت تري كيف أن هذا الشاب المدعو لا يجد طريقة لتغيير المسار دون أن يبدو‮ ‬غير مؤدب‮. ‬وضعتْ‮ ‬صوفي المروحة في يدها الأخري‮. ‬منتبهاً،‮ ‬ضاعف هانس مجهوده لكنه لم يحقق سوي إثارة حماس السيد جوتليب معتقداً‮ ‬أن الأمر الذي يناقشانه له أهمية كبري لكليهما‮. ‬شرعت صوفي في طي مروحتها ببطء،‮ ‬وبدا أنها هجرتْ‮ ‬الإنصات،‮ ‬وزاغ‮ ‬بصرها في صورة النافذة‮. ‬أدرك هانس أن الوقت ينفد،‮ ‬وفي مناورة يائسة،‮ ‬مد جسراً‮ ‬بين الموضوع الذي يناقشه السيد جوتليب وموضوع آخر لا علاقة له به‮. ‬فقد السيد جوتليب تركيزه،‮ ‬كما لو سحبوا منه الأرض التي يتزحلق فوقها‮. ‬قفز هانس فوق شكوكه وغطي بالبراهين هذه العلاقة‮ ‬غير المتوقعة لكي يهدأ،‮ ‬ذهاباً‮ ‬وإياباً‮ ‬بين الموضوع القديم والجديد مثل كرة تفقد ارتفاعها،‮ ‬مبتعداً‮ ‬بالتدريج عن الموضوع الأول ليستقر في الموضوع الثاني،‮ ‬الذي لابد أنه يتفق مع اهتمامات صوفي‮. ‬قماشة المروحة توقف طيها،‮ ‬فبقتْ‮ ‬نصف مغلقة،‮ ‬ومال عنق صوفي صوب المنضدة‮. ‬الحوارات التالية كانت مصحوبة بهزات مروحة سعيدة،‮ ‬يعطي احتكاكها الطبيعي‮ ‬إحساساً‮ ‬مريحاً‮ ‬بأنها تسير في الاتجاه الصواب‮. ‬في لحظة نشوة داعب هانس صوفي بخفة مناسبة‮ ‬،‮ ‬مشجعاً‮ ‬إياها أن تتخلي عن دور المتفرج لتنضم للحوار المتحمس بينهما‮. ‬لم تود صوفي أن تمنحه مساحة كبيرة،‮ ‬لكن طرف المروحة هبط عدة سنتيمترات‮. ‬وهبته هذه الانتصارات الجزئية الجراءة‮ ‬،‮ ‬فغامر هانس أكثر وانطلقت من فمه وقاحة،‮ ‬فرسمت المروحة عند إغلاقها في الهواء دائرة سلبية‮. ‬تراجع هانس،‮ ‬صابغاً‮ ‬تعليقه بجراءة مثالية حتي يعطي معني عكسياً‮ ‬تماماً‮ ‬،‮ ‬دون أن تسجل فراسته أي تعكير‮. ‬سندت صوفي طرف المروحة علي شفتيها بريب ما وباهتمام واضح‮. ‬انتظر هانس هذه المرة،‮ ‬أنصت للسيد جوتليب بصبر واختار اللحظة المناسبة ليطلق حكمين صائبين أو ثلاثة أجبرت صوفي علي رفع المروحة بسرعة‮ ‬لتداري خجل المشاركة‮. ‬حينئذ صارت الرفرفة سريعة بتكرار،‮ ‬وعرف هانس أن هذه المروحة تقف في جانبه‮. ‬مستمتعاً‮ ‬ببعض التهور الممتع،‮ ‬سمح لنفسه بالدخول في منحدر‮ ‬غير مريح كان من الممكن أن يصب في سوقية لم تحدث(فيتوقف هواء المروحة،‮ ‬ونفس صوفي وحتي حركة جفنيها‮) ‬لأن هانس قام في الحال بحركة بالية شهيرة وخفف بسخرية ما بدا متعجرفاً‮. ‬وعندما وضعتْ‮ ‬صوفي يدها الطويلة المميزة علي خدها لترتب حركة كانت بالفعل في أحسن شكل،‮ ‬تنهد هانس بقوة وشعر بعذوبة في عضلاته‮.

 
* كاتب أرجنتيني من مواليد بوينس ايرس سنة 1977

تعليقات

  1. الأخ توفيق
    السلام عليكم
    قصة جيدة ، أحب القصص القصيرة الخالية من الحوار ، والتي يعطينا فيها الوصف للفترة الزمنية المحدودة ، التعرف على الشخصيات.
    ولك ألف تحية

    ردحذف
  2. (:

    جميلة جدا

    قصة شجعتنى لأبتدأ فى قرأت ما عندى من قصص امريكا الجنوبيه

    و النساء نفس الحال فى جميع القارات (:

    صدقنى لم تزل عنى الأبتسامة طوال القراءة

    شكرا لك

    باتوفيق دائما

    ردحذف
  3. تعليقي مش على البوست
    انا حبيت بس اعبر عن اعجابي بالمدونة ككل
    اولا لاني بحكم عملي كمترجمة بقدر جدا العمل الترجمي والترجمات الادبية على وجه الخصوص لانها بتنقلك من ثقافة الى ثقافة بكل يسر ... كمان ان تكون المدونة بتعني بالادب الاسباني فده في حد ذاته سبب يخليها تعجبني
    بدأت دراسة الاسباني من فترة ... واهتميت بالاسبانية مش بس كلغة لكن كثقافة كمان ووجدت انها ثقافة غنية جدا اتمنى اني اكمل دارستها لانها لغة جميلة جدا.

    تحياتي على المدونة الجميلة دي.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا