التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مقهى ميرمـار*

قصة لويس سِبولفيدا ( التشيلي)**
ترجمة : أحمد المديني***


إلى روح نجيب محفوظ

توقف هبوب الريح الصحراوية مع حلول الغروب، واختلطت الرائحة المالحة للمتوسط بالنكهة العطرة لأزهارالمنيوليا. بدت لي اللحظة المناسبة لمغادرة البيت العتيق لكفافيس، العتيق والمتواضع في آن، للذهاب لجولة في أزقة الإسكندرية قبل العودة إلى الفندق.
كان الهواء منعشا، فشعرت بالعطش وتذكرت قنينة شراب اقتنيتها من مطار مدريد بانتظاري في البراد الصغير لغرفتي. وجدت في هذا سببا ملائما لحث الخطو، فما توقفت عند مقاه عديدة مررت بها وهي ذات باحات مشرعة للاستقبال. لم أرغب في شرب القهوة المعسّلة للمصريين، ولا البيرة بدون كحول المتجهمة، هي والتعاليم الدينية التي تفرضها.
بمجرد وصولي إلى الفندق تفقدت القنينة في البراد، فوجدتها حيث وضعتها، باردة وفي وضع أفقي. أظن،أيضا،أنها لم تغب عن نظر عامل الخدمة،إذ أن يدا مجهولة ومتفتحة وضعت كأسين على المنضدة.
ـ كائنا من أنت،أباركك،همهمت وأنا أفتح الباب المفضي إلى الشرفة. كنت اشتريت قنينة(كافا)هذه للاحتفال بزيارتي لمكتبة الإسكندرية،ذات المبنى الحديث جدا،من تصميم مهندس نرويجي،والذي خيّب أملي لما أبعد البحر عن المكان. خرجت إلى الشرفة،إذن، لأشرب نخب الشاعر قسطنطين كفافيس [الشاعر اليوناني الإسكندراني (1863ـ 1933)].
ذهبت يا صديقي إلى منزلك،وهناك طلب مني شخص بائس ومتناعس بضعة جنيهات نفحتها إياه فأعطاني مفتاح البيت،مشيرا عليّ أن أتركها تحت سجادة المدخل عند المغادرة.
الحق أن إشارته فاجأتني،مما جعله ولا شك يهمهم: لا أحد يأتي ليسرق من بيت شاعر، ورأيته ينصرف وهو يجر عظامه المهترئة، التي لاشك كانت تئن بشعر من وزن(ألكسندري). جلست فوق كرسيك، وفتحت فوق مكتبك كتبا محررة بلغة هوميروس وكزانتزاكيس، بمعنى آخر فإني تصرفت بوحشية واحتللت مضجعك، أغمضت عينيّ أرثي لمصير وحشيتي، وإذن، نخبك يا عزيزي!
كانت شمس الغروب تصبغ البحر بلون مفضض وكئيب، وبينما أنا أتهيأ لرفع كأسي للمرة الثانية نخبا لشاعرنا،إذ بي أسمع من الشرفة المجاورة صوتا يعلو لامرأة حتى وهي تغني بصوت خفيض أغنية ل»Karl Weil» لا تستطيع إخفاء لكنتها 
البرلينية :
ـ «Surabaya Johnny, warum bist du so roh»[ هكذا في الأصل]
حويط تعلوه أصص فقط، هو ما كان يفصل بيننا، لذا لم أحتج سوى إلى خطوتين لأراها: ممددة على أريكة طويلة، وهي ترتدي كسوة بيضاء، من قماش من كتان خفيف،لا أعرف أنسب منه لامرأة، واضعة رجليها العاريتين فوق مقعد عال.
ـ «لاشك أن جوني هذا كان رهيبا» قلت لها على سبيل التحية وأنا أريها القنينة وكأسين.
غنت وهي تشير إلى المقعد العالي، فسألتها وأنا أمد لها الكأس:
ـ من برلين أنت ؟
قبل أن تجيب قرعت كأسها بكأسي، وأخذت منها جرعة ثم وضعتها على الطاولة، وشبكت أصابعها في كثافة شعرها الأشقر المنسدل إلى كتفيها لترميه إلى الخلف في حركة ماء متدفق بلون ذهبي. كانت من أصل يوناني، وإن عاشت سنوات طويلة في برلين. قالت بنبرة حنين إنها إحدى آخر اليونانيات في الإسكندرية.
تدعوك رفقة بعض النساء إلى الصمت، ذلك أنهن يعرفن كيف يتقاسمنه، وليس أصعب من هذا ولا أكثر أريحية. طفقنا نشرب بهدوء وننظر إلى البحر.قريبا من هنا يوجد في مكان ما مردوما تحت الأرض تمثال(كولس)، صامت بدوره،وممعنة في صمتها أيضا الكتب التالفة لمكتبة الإسكندرية،مبعثرة على امتداد الساحل، لعلها من صنع الأرضية الخصبة التي نبت فوقها نخيل المنتزه الممتد على طول الكورنيش.

إلى الغرب غرقت الشمس، ونشرت الظلال أشرعتها على المتوسط.
دعوتُها إلى العشاء وأنا موقن بمعرفتها لمطعم نستطيع أن نحتسي فيه نبيذا جيدا.
ـ لا يمكنني مرافقتك اليوم، إنما أنتظرك غدا في مقهى ميرمار، قالت وهي تنهض من قعدتها، ثم شبكت ذراعيها واضعة يديها على كتفيها لتشعرني أنها بدأت تبرد.
في اليوم التالي فعلت ما توَجَّب عليّ فعله: زيارة ثانية للمكتبة، محاضرة في معهد ثربانتس، قهوة معسّلة مع الطلبة المصريين، وحوالي السادسة بعد الظهر سألت استقبال الفندق أين تقع مقهى ميرمار.
قلت لنفسي ما سُمي المقهى ميرمار،إلا لأنه يوجد على شاطئ البحر، وهكذا مضيت وأنا أسأل عنه في مختلف الحانات المطروقة من أشخاص يلعبون الطاولة، وهم يدخنون النارجيلة مرسلين في الهواء نفخات دخان معطرة. لكن، لا أحد اهتدى إلى مكان المقهى.
في منتصف الليل عدت إلى فندقي. مكانَ عامل الاستقبال وجدت حارسا عجوزا فسألته إن كانت السيدة التي تشغل الغرفة المجاورة لي قد صعدت إلى غرفتها. نظر إلي العجوز نظرة استغراب، وبإنجليزية مقلقلة ردّ أن هذا مستحيل، فهذه الغرفة ليست مشغولة أبدا، إذ هي محل لجمع أثاث المالكة القديمة، سيدة ألمانية، التي..
قاطعته:
ـ إنها يونانية، إحدى آخر اليونانيات في الإسكندرية.
ـ معك حق، كانت يونانية.
رد موافقا، وأراد أن يحكي لي القصة لكني أسكته بحركة.
إني أعيش مع الأشباح، أتقبلها وأستدعيها. ربما هي أبيات كفافي جعلتني أشرب الشمبانيا برفقة شبح قادم من حيوات أخرى. ربما هي الصحراء وهبتني سرابا جميلا، بالضبط على شاطئ البحر، المكان الجدير بالملاذ أو الهوج.
ــــــــــــــــــــــــ
*(نشرت أيضا بالملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي المغربية).
***أحمد المديني: كاتب من المغرب.

Luis Sepúlveda **
 من مواليد 1949 ب(أوفال)، مدينة صغيرة في شمال الشيلي. ينتمي إلى أسرة متواضعة. كانت والدته ممرضة و والده سكريتيرا.
قضى طفولته في سانتياغو (عاصمة الشيلي). كان طفلا هادئا، و جديا، لكنه يضا متعجرفا و متخبطا....
يحب المطالعة و لا تستميله ألعاب الأطفال الذين كانوا في سنه.
سجله أبوه في ثانوية تجارية قصد دراسة المحاسبة، لكنه كان يحصل على نتائج ضعيفة. و بالمقابل كان يكثر من دراسة الآداب، و معطم أوقاته يقضيها في المكتبة الوطنية.
أما الذي  حبب له الكتابة أو الحكي فهي جدته التي كانت تحكي له الحكايات كل مساء.
حكم عليه في سنة 1973 بثمانية و عشرين سنة سجنا لمشاركته في حركة سياسية ضد الجنرال بينوشي، و خفف الحكم فيما بعد إلى ثماني سنوات. اختار ألمانيا منفى له سنة 1980 إلى جوار زوجته الثانية، التي أنجبت له ثلاثة أطفال.
يعيش في الوقت الحالي ب(خيخون) بإسبانيا.

ــــــــــــــــــــــــ

تعليقات

  1. شكرا سيدى الفاضل على زيارتك الكريمه

    كل سنه وحضرتك بخير وسلامه

    رمضان كريم

    ردحذف
  2. شكرا أخي على بصمتك.
    وكل سنة وأنت أطيب

    ردحذف
  3. السلام عليكم
    لك الشكر الجزيل على القصة القصيرة والممتعة ، وعلى التعريف بالكاتب والذي لم يسبق لي التعرف إليه.
    ترجمة أنيقة وأمينة.
    وتقبل تحياتي.

    ردحذف
  4. صديقي عبد اللطيف يسعدني تواصلك الدائم

    اتنمى ان تكون المدونة دوما عند حسن ظنك بها

    تقبل تحياتي

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا