التخطي إلى المحتوى الرئيسي

خوان رولفو: ابو الواقعيّة السّحرية في الادب الأمريكي اللاتيني


بقلم محمّد محمّد الخطّابي:


 يمتاز الأدب الأمريكي اللاتيني بطابع خاص هو ما يطلق عليه بـ ‘الواقعية السّحرية’ (ضرب من الأدب تظهر فيه الأحداث السّحرية الخيالية وسط أحداث واقعية يمتزج فيها الواقع بالأسطورة).
هذه النزعة اشتهر بها خوان رولفو قبل أن يشتهر بها ‘غابرييل غارثيا ماركيث′، إلا انّه عندما سئل ذات مرّة حول ما إذا كان هو مخترع هذا التيّار الأدبي في أمريكا اللاتينية، وعن معناه، قال: ‘إنٌ صاحب هذا التيّار هو الكاتب الايطالي ‘ماسّيمو بونتيمبلي’ (القرن التاسع عشر)، وهو بمثابة مفتاح يعيننا على فهم واستساغة أو استيعاب الأدب الايبروامريكي.
ويعتقد رولفو بالرّغم من تأكيده على انه ليس من أنصار التعميم، انّ هناك بعض الخصائص المشتركة في أدب القارة الأمريكية خاصّة في البلدان التي كان فيها وجود مكثّف للسّكّان الأصليين.لهذه الظاهرة مبرّراتها التاريخية، فالجماعات السكّانية الأصلية في القارّة الأمريكية كانت تتّسم بهذه الخاصّية قبل انتقالها إلى عالم الإبداع الأدبي. إذ كان هناك دائما نوع من الصّراع القائم بين معتقداتهم القديمة المتوارثة والمذهب الكاثوليكي، وهم لم يقعوا قطّ تحت تأثير هذا المذهب كليّا. فمعتقدهم القديم ما زال قائما يتجلّى في مختلف طقوسهم الاجتماعية، وفي العديد من عاداتهم، وتقاليدهم وفي مظاهر حياتهم اليومية.


الهويّة المسلوبة:

يرى رولفو أن المواطن الهندي تاريخيّا قد أصيب بنوع من المهانة والإحباط من جرّاء ‘الاكتشاف’ ثمّ ‘التنصير’ فيما بعد ،حيث طمست جذوره، وسلبت منه هويّته التي كانت لصيقة بمعتقداته وموروثاته القديمة وشوّهت بالتالي شخصيته لرضوخه للسّلطة الغازية، ولم يبق له شيء سوى عاداته وتقاليده التي حافظ عليها أبا عن جدّ.
ويؤكّد رولفو أن التأثير البليغ للمعتقدات القديمة الذي نجده في الأدب الأمريكي اللاتيني خير دليل على التشبّث بالماضي. ويقول إن رواية الكاتب الغواتيمالي الكبير ‘ ميغيل انخيل استورياس′(نوبل في الآداب 1967) التي تحت عنوان: ‘رجال الذّرة’ تحفل بالإشارات والرموز العميقة للعادات القديمة لسكّان الهنود الأصليين، وتقدّم الدّليل على أن مفاهيمهم العتيقة ما زالت قائمة حتى اليوم، وهي ذات جذور بعيدة الغور في عقول الناس وضمائرهم. وهذا الشعور نقله ‘الهندي’ إلى ‘المولّد’ وإلى الأبيض أي الاسباني. وعندما تمتزج الخرافات بالحقيقة ينتج عالم جديد وغريب يعكس عوالم الهنود القديمة، على الرّغم من المراحل والأحقاب الزّمانية والظروف التي مرّت بها. وهذا ليس مجرّد خيال، بل انه استعادة لجذور كان يعتقد البعض أنها ماتت وتلاشت واندثرت ولكنها لمّا تزل حيّة قائمة، وهي تظهر في إبداعاتنا الأدبية حيث نجد مزجا بين المعتقدات والأساطير السّحرية والتعازي، وهي مع ذلك عالم حقيقي وواقعي، وفي الوقت ذاته عالم سحري ومن ثمّ نصل إلى ‘الواقعيّة السّحرية’.

العودة إلى الماضي:

ويرى رولفو انّ السّحر عند الهنود هو نوع من السلوك يقدّمون من خلاله نوعا من التعبير عن الإذعان للطبيعة وقوّاها الخارقة. وهذا السّحر هو بالنسبة لهم كذلك استكناه، واستغوار للماضي وبحث عنه.
إن هذا الحيّز أو المكان الذي يحتلّونه ويعيشون في كنفه لا وجود لشيء فيه سوى للماضي. فالهنود- مثل الفراعنة- يعتبرون الموت عودة إلى الأصل، وهذا ما يفسر عدم خوف الهندي من الموت، وهذا أيضا سرّ احتفائه به في العديد من المناسبات، بل إن هناك يوما من أيام العام عندهم يسمّى ‘بيوم الموتى.’
وهكذا يتلقف الكاتب هذا العنصر القائم بين الواقع والسّحر، ومن هنا يستمدّ هذا التيّار اسمه. ويضرب رولفو مثلا بالكاتب الكوبي ‘اليخو كاربنتيير’ الذي تألق في هذا الجانب، فاوجد مصطلحا أخر في هذا الصدد وهو ‘الواقع الرائع′ إلا أن رولفو يوثر مصطلح ‘الواقعية السّحرية’ نظرا لما يتضمّنه من عودة إلى ماضي السكان الأصليين . فالأدب في أمريكا اللاتينية لصيق بهذا المفهوم، إذ أن هذه الظاهرة غالبا ما تجد مواضيعها في الأسطورة والتاريخ، وأصحابه ينهلون من الينابيع الأولى لشعوب هذه القارّة.
ويحاول أصحاب هذا الاتجّاه الإجابة عن هذا التساؤل التالي: ما… ومن نحن.. ؟ (للعاقل وغير العاقل)، فيشير خوان رولفو بخصوص احد أبطاله في قصّته المعروفة ‘بيدرو بارامو’ انّه دائم البحث عن الماضي في نفس ‘أناه’، وفي جذوره السّلاليّة التي يجسّدها في طفولته التي تمثل أسعد مراحل حياته .
وفي نظر رولفو فانّ الحضارة الغربية على الرّغم من الضغوط التي مارستها على المواطن الهندي، فإنها في الواقع لم يكن لها تأثير كبير على السكّان الأصليين، فقد تركت هذه الحضارة ‘ المواطن الهندي’ في منتصف الطريق، ولم تفلح في المسعى الذي بدأته منذ خمسمائة عام ونيّف في طمس هويّته، وتشويه شخصيته وإقامة قطيعة، أو هوة سحيقة بينه وبين ماضيه

أزمة الأدب الأمريكي:

يرى رولفو من جهة أخرى أن الأدب في أمريكا الشمالية كان يجتاز على أيامه أزمة خطيرة، فبعد إن عرف فترات من التألق والازدهار حدث تراجع في الإبداع الأدبي في هذا البلد .ويعتقد أن الفنان ‘جيروم سالينجر’ لا ينطبق عليه ما يقوله، فباستثناء هذا الكاتب فانّ الأدب الأمريكي تحوّل إلى بضاعة للاستهلاك. فالرّواية لم تقدّم أي جديد في عالم الإبداع الرّوائي، وأصبح معظم الرّوائيين يكتبون رواياتهم حسب ‘وصفة’ مسبّقة من دور النشر، وفقد القرّاء الثقة فيهم، إذ كلّ ما يصلهم هو إنتاج مجهّز بعناية كما لو كان معدّا في مختبر.
ويضيف رولفو أن هناك جماعة من الكتّاب الأمريكيين فطنوا لهذا الوضع، وهم الذين يقومون بترجمة بعض الأعمال الأمريكية اللاتينية، ولا يقومون بهذا العمل قصد الحصول على ربح مادّي، وهم مجهولون حتى داخل بلدهم، ذلك أنهم يرفضون آداب المختبر: خاصّة تلك التي تعدّ خصّيصا للسّينما والتلفزيون، وهذا أمر شبيه إلى حدّ مّا بما يحدث في الأدب الانجليزي خاصّة الرّواية، وقد جاء ذلك نتيجة عياء أو كردّ فعل تجاه هؤلاء الكتاب العمالقة من نوع ‘جيمس جويس′، ففي انجلترا أيضا كانت تظهر أعمال مكتوبة خصّيصا لتحويلها للشاشتين الصغيرة والكبيرة .
أما فيما يتعلق بالأدب الفرنسي واحتمال تأثيره في الأدب الأمريكي اللاتيني فيرى رولفو انّه أدب كان يعاني من وضع حرج، وكان في طريق مسدود. ويمكن القول إن هذا الأدب هو أيضا نتاج مختبر، حتى وان تمّ التفكير فيه مسبّقا لكنه ومن الجانب الثقافي والإبداعي هو أكثر أهمية بالنسبة للأدب الأمريكي الشمالي .
على أساس هذه الصّورة يبدو الأدب الأمريكي اللاتيني على عهد رولفو وكأنه كان يجتاز ظروفا غير مواتية لقلّة دور النشر التي أنشاها أناس ليس لديهم تكوين أكاديمي، أو كتّاب عانوا المطاردة في بلدانهم الأصلية، أو الذين أصبحوا كتّابا في أحضان المهجر، أو وراء قضبان السّجون، وتبدو هذه الظاهرة عفوية وطبيعية بالنسبة للسّواد الأعظم من الكتّاب الأمريكيين اللاتينيّين، فالإبداع الأدبي بالنسبة لهؤلاء هو حاجة ماسّة، أو ضرورة روحية، وهذا ما يعطي لهذا الأدب نوعا من الخصوبة والقوّة.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا