التخطي إلى المحتوى الرئيسي

أسطورة الأندلس: نشأة وواقع نموذج ثقافي

باولا سانتيان*

لا تزال مسألة الأندلس محاطة بصور نمطية قادرة على تمويه الكثير، حتى على أولئك الذين يدعون امتلاك "تصور" كامل عن الأندلس وتاريخها. ولعل وطأة هذه النمطية هي ما دفع دار النشر القرطبية "ألموثارا" (Almuzara) إلى طباعة سلسلة كتب كاملة عن هذا الموضوع، ومنها كتاب خوسيه أنطونيو غونثاليث ألكانتود "أسطورة الأندلس: نشأة وواقع نموذج ثقافي". وفيه يقدم المؤلف، وهو أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة غرناطة، مقاربة معمقة يوظف فيها خبراته في نظريات علوم النفس والإثنولوجيا والأبستمولوجيا. فكرة هذا الكتاب برزت سنة 2002 عندما أصدرت دار النشر أنثروبوس (Anthropos) دراسة تمهيدية قام بها غونثاليث عن نفس الموضوع بعنوان "العرب: منطق الهزيمة وتكوين الصور النمطية للإسلام" (Lo moro. Las logicas de la derrota y la formacion del estereotipo islamico). 
هنا يطور غونثاليث ما كتبه سابقاً، لأن البعض لا يزال يعتبر الأندلس حقبة طارئة في سياق تاريخ شبه الجزيرة الإيبيرية، ويضعها بين قوسين، ولا يعتبرها مرحلة تاريخية ذات حضور وتواصل مع ما تلاها. إضافة إلى ذلك لا يقر هؤلاء بتأثير الأندلس العظيم ليس فقط على الأراضي التي قد أصبحت إسبانيا اليوم، بل على منطقة البحر الأبيض المتوسط إجمالاً.



ينطلق كتاب غونثاليث من توضيح مصطلح "الأسطورة" الذي يرد في عنوان الكتاب، حيث يراها - وعلى عكس ما تُعرّف المعاجم اللغوية - غير متعارضة مع التاريخ بل هي جزء لا يتجزأ منه. وهكذا، وتبعاً للمؤلف، فإن "أساطير الأندلس" تساعدنا على تأسيس آفاق فكرية جديدة عن تلك الحقبة وعلاقتها بتاريخ اسبانيا.

يوظف غونثاليث مجال الميثولوجيا (أو الأسطورة) لتحري فكرة أن التاريخ الحقيقي لتأسيس الأندلس، والمتوافق على أنه كان سنة 711، ما هو إلا استمرار لوجود الشرق في الغرب، وأن "فاتح" الأندلس الأصلي كان "هرقل الليبي". وحسب الأساطير فقد أسس هرقل الثالث مدناً عديدة في أراضي جنوب شبه الجزيرة الإيبيرية من أهمها إشبيلية وقادِس وغرناطة. ويرى المؤلف أن هذا الحدث يمثل بداية الانفصال بين مفهومي الشرق والغرب، وقد كان إثبات هذه الفكرة (أو نفيها) هو المحرّك الدافع للكاتب، وهي التي أفسحت له الطريق لتسلسل أفكاره خلال فصوله الأربعة عشر.

يحلل غونثاليث أساطير الأندلس معتمداً على محوري الأشخاص والأماكن. فمن جهة يسهب في الحديث عن المؤرخين والرحالة والسياسيين والأدباء والمثقفين، الذين اهتموا بالأندلس وكتبوا عنها. وفي هذا التحليل الدقيق جداً يذكر ما لا يقل عن 20 مستشرقاً إسبانياً، ويميّز بين فئتين: الأولى تضم أولئك الذين يكنّون "حبّاً للأندلس" ويطلق عليهم مصطلح
maurofilia))، ومن بينهم نجد أسماء مثل Angel Ganivet وAmerico Castro وFrancisco Marquez Villanueva وRodolfo Gil Benumeya وBlas de Infante Perez، وبطبيعة الحال الحاصل على جائزة ثيربانتيس نوفمبر/تشرين الثاني الماضي Juan Goytisolo. وفئة أخرى تضم أولئك الذين يكنون "عداء للأندلس" ويطلق عليهم اسم (maurofobia)؛ ومن بينهم نجد أسماء مثل Claudio Sanchez Albornoz وMenendez Pidal وMiguel Angel Ladero Quesada وSerafin Fanjul.

أما فيما يتعلق بغير الإسبان، فقد قام المؤلف بوضع قائمة تضم ما لا يقل عن عشرين اسماً من فرنسيين وإيطاليين وبريطانيين وغيرها من الجنسيات، ممن درسوا بطريقة أو بأخرى موضوع الأندلس، حيث كرّس المؤلف جزءاً كاملاً للكاتب الأميركي واشنطن إيرفنج (
Washington Irving) (1783-1859)، صاحب كتاب "قصص عن قصر الحمراء" المشهور.

ومنه يتحدّث غونثاليث عن علاقته "الروائية" بثلاثة من "أولاد الحمراء"، أيْ أشخاص إسبان ولكنهم حافظوا على صلة وراثية معينة تربطهم ببني نصر. كما يتحدّث أيضاً عن هوس إيرفنج في تحديد المكان المضبوط الذي خرج منه أبو عبد الله محمد الثاني عشر، آخر ملوك الأندلس. ومثل ما يحدث مع حكاية هرقل، فإن هذه اللحظة تمثل حلقة "أسطورية" تقترن مباشرة بمرجعية الكتاب وفكرته الأساسية التي تتناول انفصال الشرق عن الغرب. ولذلك لا نستغرب اختيار غونثاليث هذه اللحظة لتصميم غلاف عمله، وهي لوحة الرسام الغرناطي مانويل غوميث مورينو (
Manuel Gomez Moreno) بعنوان "خروج عائلة أبي عبد الله من الحمراء" (1880).

أما فيما يخص الأماكن، فإنّ المؤلف يتوقف في محطات جغرافية عديدة، يقع بعضها في إسبانيا المعاصرة (الإقليم المسمى بـ"أندالوثيا"): مثل إشبيلية وقادِس وغرناطة وكذلك مدن وقرى صغيرة ومتوسطة الحجم مثل أمونييكار وسالوبرينيا ومارتوس وإيستيبا ونيرخا. ويقدّم لنا الكاتب الغرناطي في سياق حديثه، قصة عن كل هذه المدن والقرى، قصصاً تتعلق بتأسيسها أو بآثارها الحضارية، وإلى غير ذلك من "الأساطير التاريخية".

وبما أن الكتاب يتناول موضوع الأندلس بمفهومه العام، فليس من الغريب أن يتجاوز الكاتب الحدود الإيبيرية ليروي لنا عن المغرب. ذلك أن الدولة العلوية تُعتبر أبرز مثال لاستمرار وجود الأندلسيين في المجتمع العربي المعاصر. ويتوقف المؤلف بشكل خاص عند مدينة فاس التي يعتبرها "توأماً تاريخياً واجتماعياً وفنياً لغرناطة" (ص 191). ومن الجدير بالذكر أن موضوع الهوية الأندلسية المعاصرة هو ما شغل غونثاليث بتصوير فيلم وثائقي ظهر سنة 2010 بعنوان "عن الأندلسيين" (
Andalusies
). 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * كاتبة إسبانية

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

9 من أفضل روايات أمريكا الجنوبية ننصحك بقراءتها

من البرازيل وحتى المكسيك، من تشيلي لبيرو ومرورًا بكوبا والإكوادور، في تلك البلاد والمجتمعات التي عانت كثيرًا من الاستعمار وقاومت لعقود عبر عشرات الثورات، من تلك البلاد الساحرة والمجتمعات الثرية بالحكايات كان أدب أمريكا اللاتينية جديرًا بالتبجيل والانتشار . ذلك الجمال الأدبي الساحر، والقصص والحكايات الإنسانية التي أبدع كتاب أمريكا الجنوبية في نسجها. ومن آلاف الكُتاب وعشرات الآلاف من الكتب والروايات الساحرة المنتمية لتلك البيئة نرشح لكم تلك الروايات التسعة .

المترجم عمر بوحاشي: الترجمة من الإسبانية للعربية تعرف قفزة نوعية بفضل ظهور جيل من المترجمين وتحديدا في شمال المغرب

حاورته: إيمان السلاوي يكشف المترجم المغربي عمر بوحاشي، في هذا الحوار، آخر أعماله المترجمة التي تهم رواية "الكوخ" للكاتب الإسباني بيثينتي بلاسكو إيبانييث، وكذلك عن إصداراته الأخيرة، ويقدم رؤية عن واقع الكتب المترجمة من الإسبانية إلى العربية في المغرب التي يعتبرها ذات مستقبل واعد . والمترجم حاصل على جائزة الترجمة من المعرض الدولي للنشر والثقافة بالدار البيضاء سنة 2014، عن رواية بعنوان "لسيدة بيرفيكتا" للكاتب المخضرم، بينيتو بيريث غالدوس، يؤكد أن “الترجمة تخلق نوعا من التفاعل الثقافي، وفتح الحوار بين الحضارات، وتساهم في انفتاح الشعوب على بعضها لتتعارف أكثر”. ويعتبر بوحاشي من جيل المترجمين الذين نقلوا أهم الكتب الإسبانية التي ساهمت في تشكيل المغرب في المخيلة الإسبانية خلال العقدين الأخيرين. فقد ترجم رواية "عيطة تطاون" لبينيتو بيريث غالدوس التي تعتبر منعطفا في الروايات التي كتبت حول المغرب لأنها تميزت بواقعية لم يعتدها الإنتاج الأدبي الإسباني حول الجار الجنوبي للإسبان .

عرض لكتاب "رحلة في جماليات رواية أمريكا اللاتينية"

صدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق، 2007 تأليف د. ماجدة حمود   يجول هذا الكتاب عبر جماليات روايات من أمريكا اللاتينية، التي احتلت مكانا هاما في الساحة الثقافية العالمية، خاصة أن الباحث يحس بوشائج قربى مع هذا الأدب الذي يشاركنا في كثير من الهموم السياسية والاجتماعية والاقتصادية (التخلف، الاستبداد، الهيمنة الغربية...) ومع ذلك استطاع إبداع أدب أدهش العالم وما يزال! لهذا ليس غريبا أن يحصد أدباؤها كما كبيرا من الجوائز العالمية، قد منحت جائزة (نوبل) لشعراء (غابرييلا 1945، بابلو نيرودا 1971، أوكتافيو باث، 1990...) كما منحت لروائيين (ميغل أنخل أستورياس 1967، غابرييل غارثيا ماركيز 1982...) وقد رشح لهذه الجائزة أيضا كل (ماريو فارغاس يوسا) و (إيزابيل الليندي) بالإضافة إلى ذلك منحت جائزة ثرفانتس لعدد كبير منهم (كارنتيير 1977، بورخس 1979، أونيتي 1980، باث 1981، ساباتو 1984، فونتيس 1987، بوي كساريس 1990...) تحاول هذه الدراسة أن تجيب على التساؤل التالي: لِمَ تفوق هذا الأدب الذي ينتمي مثلنا إلى العالم الثالث، ووصل إلى العالمية رغم تخلف بلدانه؟ وقد اخترت تركيز الأضواء على جنس الرواية في أ...