التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مَا أَصْعَبَ أَنْ يَكُونَ المَرْءُ مُبصِراً في مجتمعٍ أعمىَ !

*محمّد محمّد الخطّابي

في مجال رصد " تنبّؤات" بعض الكتّاب، والمفكّرين الغربييّن حول ما عُرف أو أُطلق عليه "الربيع العربي" ! نَسْتحْضِرُ،أو نُذكّر في هذا السّياق بما كانت قد صرّحتْ به الكاتبة، والمترجمة الإسبانية " بِيلاَرْ  دِيلْ رِيُّو " أرملة الكاتب البرتغالي الرّاحل" خوسّيه ساراماغو" (نوبل في الآداب عام 1998 ) حيث قالت " أنَّ زوجها كان قد " تنبّأ" (!) في إحدى رواياته التي نُشرت عام 2004 والتي تحملُ عنوان " البصيرة " أو " بحث في الوضوح" (صدرت ترجمتها إلى العربية عن الهيئة المصرية العامة للكتاب - سلسلة الجوائز-)، تنبّأ – حسب تصريحها- بريّاح التغييرات التي هبّت ،والثورات التي عرفتها، وشهدتها بعضُ البلدان العربية. (الربيع العربي) الذي سرعان ما أضحىَ في عُرْف البعض، أو أصبحَ، أو كاد أن يصبح خريفاً عربياً، شاحباً، حزيناً، كئيباً، رديئاً، مُدلهمّاً، وفي بعض الجهات مُخيّباً للآمال،والتطلّعات.

قِصَّةُ شَعْب..
رواية خوسّيه ساراماغو  الآنفة الذّكر حسب أرملة الكاتب" بيلار ديل ريّو" تحكي قصّةَ شعب قرّر بالإجماع مقاطعة الانتخابات في البلاد، ممّا أشاع نوعاً من الهلع، والفزع، والذّعر، والرّعب والتخوّفات لدى المسئولين، حيث اعْتُبِر هذا التصّرف بمثابة شكلٍ من أشكال التحدّي، والمواجهة والعصيان، أو إعلان، أو أمارات، أو إرهاصات تُنذر بقرب قيام الشعب بتمرّد عام على السّلطة الحاكمة.
لتحميل الرواية بالاسبانية
وتقول" بيلار ديل ريّو" في نفس السّياق :" إنّ هناك فقرةً في هذا العمل الأدبي الرّوائي تشير إلى ما معناه :" أنّ المواطنين يظلّون معتصمين لعدّة أيام في السّاحة الرئيسية، أو الميدان الكبير للمدينة حيث يتمكّنون بالفعل تحت ضغط التظاهر، والاحتجاج المتواصليْن من الإطاحة بالحاكم الطاغية المُستبدّ - كما تصفه الرّواية - . وعندما ينتهي كلّ شيء، ويعود المتظاهرون إلى أعمالهم الاعتيادية ، ومزاولة نشاطاتهم اليومية ، يقرّرون فيما بعد تنظيم أنفسهم ويبدؤون - قبل كلّ شيء- بتنظيف المكان الذي كانوا مُعتصمين فيه "..!.
وتشير"بيلار ديل ريّو" أنّ ذلك ما حدث بالضبط أو ما يشبهه إلى حدّ بعيد في مصرَ، وفي بعض البلدان العربية أو في أماكن، ومدن أخرى من العالم العربي، التي طالتها ريّاحُ الغضب، وأعاصير التغيير في المدّة الأخيرة ".
وتؤكّد هذه الكاتبة الإسبانية، وهي مترجمة أعمال زوجها " ساراماغو" من البرتغالية إلى لغة سيرفانتيس :" أنّ زوجها لم يكن قارئَ طالع، أو يتنبّأ بالمستقبل، بل إنّه كان مثقفاً يعيش زمانَه ،ويعيه جيّداً ويتفاعل مع أحداثه والتطوّرات التي يشهدها بدون انقطاع، وبالتالي فهو كان يرصد عيوبَ العالم، ونواقصَه، وزلاّته بالتأمّل فيه، وإعمال النظر بمجرياته"- على حدّ تعبيرها -.
وتضيف:" إنّه كان رجلاً دائمَ التفكير في كلّ ما يحيط به ويعايشه، مُمْعْناً النظرَ في العالم، ومتتبّعاً لكلّ ما يعتريه من تغيّرات، أو تعثّرات، ونواقص، وعيوب، وقصور". وتَزْعُم "بيلار ديل ريّو" في نفس السّياق أنّ زوجَها: " كان يعرف أنّه لم تكن هناك أزمة اقتصادية حادّة اجتاحت العالم ، بقدر ما كانت هناك أزمة أخلاق، وسلوك، ومبادئ، وعليه فانّ البشرية سوف تتأخّر كثيراً للخروج والتخلّص من هذه المُعضلات العويصة، والأزمات الحادّة التي تعصف بها "- حسب منظوره - .
ساراماغُو والعَمىَ
يرى بعضُ الكتّاب منهم بلديُّه الباحث البرتغالي"كَارْلُوسْ رِيَّاسْ" عميد جامعة " أبيرتا" البرتغالية أنّ خوسّيه ساراماغو أثار خلال حياته غيرَ قليلٍ من الزّوابع، والتوابع، والجَدل حول مختلف القضايا المعاصرة سياسيةً كانت، أم أدبية، أو فلسفية، أو تاريخية،أو اجتماعية، أو دينية والتي لم تخلُ في بعضها من بعض الأباطيل، والمبالغات، والمغالطات. وإثارة النقع، والعجاج على صفحات الجرائد، والمجلات، والكتب دون طائل يُذكر. ولعلّ روايته الشهيرة" العَمىَ" التي نال بها أو عنها (جائزة نوبل في الآداب..!) قد جعلتِ الأمورَ تدلهمّ أمام ناظريه،منها عدم تفهّمه - قيد حياته – بشكلٍ واقعي لمطالب المغرب في استكمال وحدته الترابية المشروعة، هذا في الوقت الذي كانت له من جهة أخرى مواقف مشرّفة على الصعيد العربي كموقفه الدّاعم لقضيّة فلسطين، وانتقاده العنيف لإسرائيل بعد الممارسات الوحشية التي قامت بها ضدّ الفلسطينيين العزّل والتنكيل بهم في العديد من المناسبات . وقد قام عام 2002 بزيارة لرام الله متضامناً مع الفلسطينيين أثناء الحصار الذي فرضته إسرائيل عليهم بعد انتفاضة الأقصىَ آنذاك، حيث هاجمتْه الصهيونيةُ العالمية،ونكّلت به، وطالته حِرَابُها ، وغشتْه سِنَانُها بعد تصريحاته ضدّ إسرائيل .
هِجْرَتُه إلى جُزر الكناري
ويشير "كَارْلُوسْ رِيَّاسْ" من جهة أخرى أنّه عندما صدرتْ رواية خوسّيه ساراماغو " الإنجيل حسب يسوع المسيح" عام 1991 أثارت ضجّة كبيرة انقلبت إلى نقمة عارمة عليه ، إذ يوجّه فيها الكاتبُ انتقادات مجّانية للكنيسة الكاثوليكية ، ممّا حدا به إلى التفكير في الاغتراب والهجرة بصفة نهائية من بلاده ، خاصّة بعد أن قامت الحكومة البرتغالية بحجز كتابه، واتهام رجال الدّين والفاتيكان له بالإساءة وبالمساس بالتراث الديني للبرتغاليين، ومنذ مغادرته البرتغال 1998 بدأ يُبدي نوعاً من الافتخار والتباهي بأصوله الأمازيغيّة - حسب إدّعائه - إذ كان يزعُم أنّ أجدادَ جدّه ينحدرون من شمال إفريقيا، وذلك - حسب رواية البّاحث الجامعي البرتغالي الآنف الذكر - .
وقد استقر خوسّيه ساراماغو في جزيرة "لانثاروطي" بالأرخبيل الكناري (الخالدات) بشكل دائم حتى آخر أيام حياته مولّياً وراء ظهره الغربَ والشمال، ومُعانِقاً هذه الجزيرة الكنارية الضائعة في غياهب بحر الظلمات،والغارقة في متاهات المحيط الهادر، وتشكّل هذه الجزيرة البركانية إحدى سلسلة الجزر السبع التي تشكّل أرخبيل الخالدات ذي الأصول والجذور الأمازيغية قبل وصول الأسبان إليها في القرن الخامس عشر،حسب معظم الدّارسين،والكتّاب،والباحثين، والمؤرّخين الثقات في هذا الشّأن من مختلف الجنسيات بمن فيهم الأسبان والكناريون أنفسهم الذين يعرفون هذه الحقيقة، ويتباهى بعضُهم بها .
العَمىَ والظلَاَمُ المُلْتَهِب
وينبغي الإشارة في هذا الصّدد أنّ للكاتب الإسباني المسرحي الكبير" أنطونيُو بْوِيرُو بَايّيِخُو" مسرحية ناجحة تحت عنوان" الظلام الملتهب" وهي تدور حول العَمىَ كذلك، حيث تُعتبر هذه المسرحية تقصّياً مَهْوُوساً للظرف التراجيدي للإنسان كعنصر بارز من عناصر التاريخ،وبذلك تتحوّل الدراما عنده إلى حقيقة تاريخية،عاش "أنطونيو بويرو بايخو" سنتين من عمره في مدينة العرائش( شمال المغرب) حيث كان والده عسكرياً يعمل بالجيش الاسباني هناك. ولا يُستبعد أن يكون ساراماغو قد قرأ هذه المسرحية أو تأثّر بها ولا شكّ ، ومع ذلك نال بروايته (العَمىَ) الآنفة الذّكر إيّاها أعلى،وأرقى تكريم أدبي في العالم (نوبل في الآداب) .. !
من أعمال خوسّيه ساراماغو الرّوائية الأخرى"أرض الخطيئة" (1947)، "تاريخ حصار لشبونة"(1989)." ، " الإنجيل حسب يسوع المسيح"(1991) "كلّ الأسماء" (1998.)"رحلة الفيل" (2008)."قابيل"(2009) وسواها من الأعمال الروائية والإبداعية الأخرى. هذا وتجدر الإشارة كذلك في هذا القبيل أن رواية ساراماغو "العّمىَ"( 1995) ،قد تحوّلت إلى فيلم سينمائي عام 2008 . توفّي خوسّيه ساراماغو عام 2010 عن سنّ تناهز 87 سنة في مقرّ إقامته بجزيرة "لانثاروطي" الكنارية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا - كولومبيا.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا