التخطي إلى المحتوى الرئيسي

غويتيصولو يشيد بالرواية العربية الحديثة



ما زال القارئ الغربي عموما يستقبل بفتور ما تبدعه الأقلام العربية على الرغم من الخضة القوية والمفاجئة التي أحدثتها جائزة نوبل للآداب الممنوحة في أواخر الثمانينيات لنجيب محفوظ، ومرد ذلك في الحقيقة يعود إلى جملة من الأسباب قد يقف في صدارتها الغياب شبه الكلي لحركة الترجمة من وإلى اللغة العربية، فضلا عن محدودية الإعلام العربي الثقافي في تعامله واحتكاكه بالآخر.
من هنا، لا نبالغ إذا رأينا كاتبا كبيرا ومتألقا كالإسباني 'خوان غويتيصولو Juan Goytisolo' بحضوره الروائي المتوهج ضمن المشهد الثقافي العالمي يشيد عن صدق فياض بالرواية العربية الحديثة، ويدعو القارىء الغربي والمثقف منه على نحو خاص إلى إعادة اكتشافه للنصوص الإبداعية العربية الراهنة، الحافلة حسب تقييمه برؤى جمالية باذخة، وروح إنسانية جد عالية، ربما قليلا ما يعثر عليها في نصوص غربية كثيرة، يفترض أنها بالنظر إلى التجربة التاريخية قد حققت وثبات استكشافية بعيدة.
وفي تصوري المتواضع أن 'غويتيصولو' كان على ذكاء مثير للإعجاب عندما وضع اختياره من بين ما اختاره من النصوص العربية الجيدة على رواية 'التبر' للروائي الليبي الترقي إبراهيم الكوني، حيث كتب 'غويتيصولو' منذ فترة قريبة على صفحات الأسبوعية الفرنسية المعروفة 'لو نوفال أوبسيرفاتوار' منبها القارئ الغربي إلى ضرورة حفظ اسم هذا الروائي العربي المتميز، لأنه بعبارة واحدة تمكن من إبداع نص أصيل ومبهر يتمثل في 'قصة حب' لا أحلى ولا أروع، وأكبر من ذلك أن أحداثها وشخوصها بمصائرهم المتصارعة وظروفهم الطبيعية المستحيلة والقاسية تجري جميعا في الصحراء الكبرى، ذات العوالم الشاسعة الممتدة كالأبدية ما بين ليبيا والجزائر، أي بعيدا عن الأجواء الحضارية وكل مفرداتها السيكوسوسولوجية والتكنولوجية المعروفة.
إن إبراهيم الكوني على حد القراءة الخاصة للكاتب الإسباني 'غويتيصولو' يجمع بالفعل وذلك اتكاء على روايته الناجحة 'التبر' كل مواهب الفنان العظيم بالإضافة إلى معرفته العميقة بمختلف التقاليد الأدبية العربية، فهو صاحب أسلوب في الكتابة متفرد يصعب جدا تقليده ومحاكاته، كما أن لغته تستبطن عذوبة خاصة وشحنة بلاغية ترتقي إلى بيان السحر الذي يستحوذ على كيان قارئه فيكاد يخلب لبه!!


ولعل القارىء الكريم يتساءل الآن في حيرة عمن يكون هذا الإبراهيم الكوني، الذي لم يدخل بعد بالقوة اللازمة حرم الأضواء الإعلامية، ولماذا لم يحظ بحقه من الشهرة الكافية رغم فوزه في الأعوام الأخيرة بعدة جوائز أدبية غربية (يابانية وفرنسية وسويسرية) وعربية، طالما أنه يملك مثل هذه القامة الأدبية الرفيعة؟؟ طبعا الرد على مثل هذا السؤال الهادف والوجيه يجرنا إلى الخوض عبثا في طبيعة السياسة الثقافية المنتهجة في بلداننا العربية القريبة البعيدة، ولهذا نفضل في المقابل تقديم بطاقة هوية قصيرة جدا عن الروائي الليبي المتألق دوما إبراهيم الكوني، الذي نعرف عنه أنه من مواليد عام 1948 ودراسته التي أمضاها في الاتحاد السوفييتي (سابقا) وأنه يجيد تسع لغات وينتمي إلى المدرسة الرومانسية الحديثة، حيث يعيش حاليا متنقلا ما بين سويسرا ومسقط رأسه ليبيا، وله روايات أخرى ومجموعات قصصية منشورة مثل: 'نزيف الحجر'، 'المجوس'، 'صحرائي الكبرى'، 'موسوعة البيان'، 'وصايا الزمان'، 'ديوان البر والبحر'. وقد تم اختياره من طرف المجلة الفرنسية 'لير' من بين خمسين روائيا من العالم يمثلون اليوم القرن الواحد والعشرين، وقد ترجمت أعماله إلى عدة لغات أجنبية وله ستون كتابا حتى الآن.. كما أن روايته 'التبر' هي أول عمل روائي ينشر في فرنسا، وقد تولى ترجمتها عن العربية محمد سعد الدين اليماني، وصدرت عن دار النشر العريقة 'غاليمار' في 156 صفحة، ولا بأس من أن نشير أيضا إلى أن المجلة الألمانية 'فكر وفن' قد أفردت في واحد من أعدادها الممتازة السابقة صفحة للحديث ولو خطفا عن هذا الروائي الليبي إبراهيم الكوني الذي شغف - كما كتبت عنه - بالصحراء ومداراتها المتسامية عن كل توصيف، وأنه التروبادور المنتمي إلى سلالة نادرة من البشر الذين في مقدورهم الغوص عبر نظرة واحدة متأملة ضمن هذا الفضاء الحميم الملقب بالصحراء والمترامي الأطراف حتى حافة الكون، ليسردوا ما رأوه سرا مفعما بالأصالة والصدق والتمكن والارتباط الوفي بالمكان والروح الخفية التي تسكنه من الجذور.
وبعد..إن الكاتب والروائي الإسباني الكبير 'خوان غويتيصولو' يستحق في واقع الحال أكثر من الشكر على التفاتاته الطيبة والمتكررة في حقيقة الأمر إلى ما تبدعه الأقلام العربية، وهو الذي سبق له أيضا أن حط الرحال ببلداننا مرارا في مناسبات مختلفة، وكتب عنها بعشق نبيل وعاطفة جياشة تتميز بطعمها ونكهتها الغربية الخاصة.

رشيد فيلالي

تعليقات

  1. تسلم ايدك

    بجد مقال رائع

    انت تشكر ايضا لأنك سبقت هذا الكاتب بتعريفنا

    بالكاتب الليبي العظيم

    ارجو اجد له اصدارات بالقاهرة

    لأن الكتاب الفعلى له مذاق خاص عندى

    أشعر بكلمات الكاتب تتخللنى مع كل قراءة له

    شكرا على المقال الهايل

    ربنا يوفقك دايما

    (:

    ردحذف
  2. شكرا على مرورك عزيزي رامي..
    و التمس لي العذر على تاخري في الرد..
    انتهت فترة الاجازة و استأنف العمل و انت أدرى بالمشاغل و الالتزامات يا صديقي..
    تحياتي لك..

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا