التخطي إلى المحتوى الرئيسي

نيكانور بارّا: رقصة الشاعر المضادّ الأخيرة


نجيب مبارك
لم تتأخّر رئيسة جمهورية تشيلى ميشيل باشليت في إعلان الحداد الرسمي في البلاد عقب وفاة نيكانور بارّا، آخر شعراء تشيلي الكبار وأحد "أعظم كتّابه عبر التاريخ"، فجرَ الثلاثاء عن عمر مئة وثلاثة أعوام (103).  فهذا الشاعر المعمّر والمشاكس، الّذي كان يصف نفسه بـ"الشاعر المضادّ"، يستحقّ مثل هذا التكريم وأكثر، ليس في بلاده فحسب بل وخارجها أيضاً، بالنّظر لمكانته الأدبية والشعرية العظيمة في الآداب اللّاتينية-الإسبانية خلال القرن العشرين، ولتأثيره الكبير على أجيال من شعراء اللّغة الإسبانية، من خلال مسار حياته وإبداعه الغنّي والفريد.

حياة راقص الكويكا
قبل أعوام، اعتزل هذا الشاعر الكبير العالمَ في قريته الساحلية الصغيرة "لاس كروثيس"، رافضاً إجراء أيّ حوار مع أيّ كان. هو الّذي وُلد قبل أزيد من قرن، في الخامس من سبتمبر عام 1914 ب"سان فابيان دي أليكو"، في منطقة شيلان بالتشيلي، من أسرة متواضعة لكنها أنجبت العديد من الفنانين المشهورين، مثل أخته الموسيقية العالمية فيوليتا بارا صاحبة أغنية "شكراً للحياة" الشهيرة. وبسبب تكونيه العلمي العميق في الفيزياء والرياضيات، حصل بارا على منحتين للدراسة في جامعة باراو (الولايات المتحدة) وجامعة اوكسفورد (المملكة المتحدة). وبعد عودته، قام بتدريس الفيزياء، كما أدار مدرسة المهندسين في جامعة تشيلي قبل أن يدرّس الأدب.
كما سبق له أن حصل على الجائزة الوطنية في الأدب التشيلي، وعلى الجائزة الشعرية سانتياغو دي شيلي، وعلى الجائزة الدولية لكتاب أمريكا اللاتينية، وعلى جائزة خوان رُولفو الأدبية الرفيعة، وعلى العديد من الجوائز الشعرية والأدبية المهمة الأخرى داخل بلاده تشيلي وخارجها. لكنه لم ينل جائزة ثيرفانتس المرموقة، التي تُعتبر بمثابة نوبل في الآداب الناطقة باللغة الإسبانية، حتى بلغ سنّ الثامنة والتسعين عام 2012.  وخلال حفل تسلم هذه الجائزة أبدى تواضعاً مفاجئاً حين اعتبر هذا الاستحقاق ممنوح عن "الكتاب الذي لم أكتبُه بعد"، حسب قوله.  لكنّه في حوارات سابقة لم يكن بمثل هذا التواضع، إذ لا أحد ينسى تصريحه الشهير، الّذي ينسب فيه الفضل لنفسه في تجديد الشعر: "كلّ شيء يسير إلى الأسوأ منذ عصر النهضة (…) وعلى مدى قرون، كان الشعر هو جنّة المعتُوه الرسمي، حتى جئتُ أنا وامتطيت أُفعوانيتي الروسية".
الشعر المضاد وفنّ الهدم
"أشعر بالقرف من الأدب.. مثلما أشعر به من الأدب المضادّ". هذه واحدة من جمل نيكانور بارا المفارقة والصادمة، وهي تختزل ما يمكن أن نصف به شخصيته: عبقري، مستفزّ وصاحب رؤيا. هذه الشروط الثلاثة اجتمعت فيه دفعة واحدة من أجل تأسيس مشروع شعري طموح وفريد، قائم على القطيعة مع الماضي والابتكار الجديد الذي يخلخل مسلّمات الهوية الأدبية، وليس الشعرية فقط. ذلك أنّ بارّا فتح فعلاً أبواباً جديدة، حين أعاد الاعتبار إلى اللغة المحكية في أبعادها المتعددة الأصوات، بلغة مستفزة ومنزوعة القداسة، لأن "الشعر المضاد يبحث عن الشعر، من خلال الفصاحة"، حتى وصف النقاد مشروعه الجريء ب"فنّ الهدم".
في كتابه الشعري الأول، اختار السير على نهج شعر الثلاثينيات، ويبدو عليه تأثير واضح من غارثيا لوركا. لكنه حين شرع في كتابة "قصائده المضادة" بين 1938 و1950، لم يكن يدري أنه يقوم بابتكار شيء غير مسبوق يحتوي "مفهوماً" جديداً للشعر.  لكنه انتبه لاحقاً إلى ذلك حين عاد لإلقاء الضوء على هذه التجربة، معتبراً أنّ الشعر قد فشل ووقع في مرحلة فراغ خلال الثلاثينيات بعد غياب الطليعيين. كما أن الشعر المكتوب بالإسبانية خلال هذه الفترة، بالنسبة إليه، كان غارقاً في البلاغة الفارغة التي سيؤدّي استمرارها لا محالة إلى العدم الشخصي. وحين قام ببحوث لمعرفة أصل هذا الداء، توصّل إلى أنه ينحدر من عصر النهضة.  وبالتوغّل أكثر في التاريخ، عثر أخيراً على حيوية الشعر المباشر مجسّدة في القرون الوسطى، وخصوصاً تلك التي كانت تُمارس في الكرنفالات الشعبية.
تزامن هذا الاكتشاف الأدبي والشعري مع اكتشاف آخر موضوعي: لاحظ نيكانور بارّا مبكّراً مظاهر الانحلال خلال تلك المرحلة في تشيلي، وهيمنة السياسات الخاطئة، وهشاشة القناعات التي ترسخت على مدى عقود. لهذا، قرّر أن يكتب شعراً مباشراً، يشبه حواراً مع رجل الشارع، حواراً بين مَن يتكلم ومَن ينصت، كما في الشعر الشعبي. وهو شعر يظلّ حيّاً في كلّ زمان ومكان لأنه شعر موجّه للناس أجمعين. وقد كان بارّا شديد اليقظة في التقاط كل التعابير والجمل المحكية الّتي يمكن أن تنطوي على غنى في الأصوات، وشرع من خلالها في تفكيك عالم برمّته لبناء عالم جديد، تؤثّثه لغة الحياة اليومية مقابل البلاغة المتخشّبة والهرمسية البائدة.  ومعه لم يعد للأسلوب المتكلّف أو الاستعارة مكان، لأن اللغة صارت بحدّ ذاتها استعارة. وهو في اقتراحه هذا استنفذ كل أصناف الكتابة الشعبية بلا استثناء.  بل إنه طالب في إحدى القصائد بأن تُمنح له جائزة "نوبل للقراءة"، بدل "جائزة نوبل" التي ظلّ سنوات طويلة من مرشّحيها الخالدين، لأنه كان يعتبر نفسه "قارئا مثالياً" نهماً بالدرجة الأولى، يقرأ حتّى الإعلانات المضيئة في الشوارع، مثلما يقرأ كتابات جدران المراحيض أو توقّعات لعبة القمار.
ضد "اللغة المؤدّبة"
ما هو الشعر المضادّ حسب نيكانور بارا؟ إنّه مقابل صورة الشاعر الذي لطالما اعتُبر امتداداً ل"الإله"، يقترح نزع القداسة تماماً عن الشعراء.  وفي مواجهة الطابع العاطفي الغالب، يقترح أن تكون السّمة المميّزة للشاعر هي فقدان أيّ صفة متعالية. وفي مقابل "اللغة المؤدّبة"، يقترح استعمال لغة المحادثة اليومية، ولغة الشوارع الخشنة وحتى التعابير السوقية والجنسية الصادمة. وعكس العمق والشمولية والجدية، يقترح التجزيء والسّطحية والدعابة.  وبهذا المعنى، حسب الناقد لويس إنييغو مادريغال، ف"الشعر المضادّ" فتح أمام الشعراء " فضاء من الحرية على أنقاض البناء الذي انهار تحت الضربات. وقد استوعب الشعر التشيلي هذا التحوّل وتبنّاه. وهكذا، نجد عدداً كبيراً من شعراء النصف الثاني من القرن العشرين، بعد أن وقفوا على الحدود الممكنة ومظاهر القصور في شعر الجيل السابق، أسهموا في إغناء الشعر الإسباني المعاصر".
كما يمكن تفسير الشعر المضادّ عند بارّا، بأنّه توغّل في لغة عالم سفلي راكد بقدر ما هو مُزهر. لغةٌ شعبية تتضمّن حتى النكات والسخرية، سواء في مضمونها المباشر أو في مغزاها المجازي. ولهذا تراه يحذّر في صدر أحد كتبه: "المؤلفُ غير مسؤول عن الإزعاجات التي يمكن أن تسبّبها كتاباته للقارئ". إنّه شاعر مجدّد، متمرّد، مفاجئ. مزيج من الشاعر المحبوب والشاعر الملعون. "نصف ملاك ونصف شيطان". لكنّه يرى أنّ هنالك سوابق للشعر المضاد نجدها في كوميديات أرستوفانيس وانتقاده للمجتمع الأثيني، وفي الإسقاطات الفرويدية النفسية، وفي تحوّلات شارلي شابلن المفاجئة، وفي أسلوب كافكا في الوصف. ومع ذلك فإنه يقدم تعريفاً أكثر إيجازاً: «القصيدة المضادّة ليست سوى القصيدة التقليدية معزّزة بالنسغ السوريالي، سوريالية كرويلية أو كما تشاؤون تسميتها". أو يعرّفه شعراً في إحدى قصائده: "ما هو الشعر المضاد: أهو عاصفة في فنجان شاي؟/ لطخة ثلج على صخرة؟/  قصعة مملوءة بفضلات بشرية/ مثلما يظنّه الأب سالفاتييرا؟/ أهو مرآة تقول الحقيقة؟/ أم صفعة على وجه رئيس جمعية الكتّاب؟/ (فليحفظه الرب في ملكوته المقدس)/ أهو تحذير للشعراء الشباب؟/ ضع إشارة  X /  على التعريف الذي تراه صحيحاً ".
نون باء/ باء نون
ليس من السّهل أن تكون شاعراً تشيلياً وأن تكتب الشعر بعد هؤلاء العظماء الثلاثة: غابرييلا ميسترال، بيثينتي هويدوبرو وبابلو نيرودا. اثنان منهما حائزان على جائزة نوبل للآداب: ميسترال ونيرودا. لكن نيكانور بارّا تحدّى الجميع واختار الطريق الصعب لحفر اسمه الخاصّ ونجح في العثور على صوته المتفرّد أمام هؤلاء الكبار. وطبعاً، لقد تعلم بارّا منهم الكثير، فقد أخذ من ميسترال الكلمة العارية اليائسة، والإخلاص للحياة، والحس الدرامي بالوجود، والتجذر في الشعر الإسباني. لكن العلاقة الأكثر تعقيداً كانت هي علاقته مع نيرودا، الذي يكبره بعشرة أعوام، حيث كان يقف على النقيض من تجربة هذا الشاعر الكبير، ويعتبر أنه جلب للقصيدة التشيلية النشيد والتراتيل، وليس الحياة. وبالنسبة إليه، فإن نيرودا صار كلاسيكياً بحلول الخمسينيات، رغم رنّة شعره الكونية، وتفاؤله البنّاء، وصقله المستمر لمفرداته، بينما ظلّ بارّا يؤكد بثبات أنه نصير حازم للأرض الصلبة، يغرس جذوره في الوجود الإشكالي، متخلّياً عن كل يقين مسبق، ونازعاً الوهم عن النشوة، وغامساً ريشته في أقوال ومأثورات مواطنيه.  ولهذا وصف أحد النقاد هذه العلاقة الصدامية والملتبسة بين بارّا ونيرودا وصفاً طريفاً من خلال لعبة المرآة: إذا وضعنا الحرفين الأولين لأحد هذين الشاعرين أمام المرآة سيظهر اسم الشاعر الثاني: نون باء (نيكانور بارا) تنعكس فتصير الباء نونًا (بابلو نيرودا).
يقول بارّا في إحدى القصائد: "يجب تغطية كلّ شيء بالبنفسج/ تواضع/ مساواة/ إخاء/ يجب ملء العالم بالبنفسج... على سبيل التّغيير". وكم كان محقّاً في وصيته هذه، خصوصاً بعد أن ترجّل أخيراً كما يليق بشاعر "راقص على حافة الهاوية"، شاعر العبث والسخرية المستفزة، أو "الشاعر المضاد" الّذي نزع القداسة من الشعر، منحازاً إلى كتابة أقرب إلى اللغة المحكية، هو الّذي كان يردّد دائماً:"لا أؤمن بالكلمة وإنّما بالفعل، ولا تحكموا على ما أقول وإنّما احكموا على ما لا أقول". رحل إذاً آخر شعراء تشيلي الكبار، نيكانور بارّا، وعزاؤنا ما ترك لنا من أعماله المتمرّدة والمتجدّدة، مثل: "رقصة الكويكا الطويلة"، "أشعار الصالون"، "قميص المجانين"، "أعمال فنية"، "خطب ومواعظ مسيح إلكي"، "خطب ومواعظ مسيح إلكي الجديدة"، "أغنيات روسية"، "طرائف بارا لتضليل الشرطة"، "قصائد غير منشورة" "أغاني بدون عنوان"، "قصائد وقصائد مُضادة"، "العقبة الكأداء"، "قميص القوة"، "أوراق بارا"...وغيرها.

 ـــــــــــــــــــــ

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

المترجمة بثينة الإبراهيم: الترجمة تقاوم القبح وتدخلنا غابة الكلمات

علي سعيد جريدة الرياض بالنسبة لبثينة الإبراهيم، الترجمة بمثابة مزاولة الرياضة اليومية. المترجمة السورية المقيمة في الكويت، احتفى بها متابعوها على شبكات التواصل لاتمام عامها الأول في نشر مقاطع أدبية واظبت على ترجمتها ونشرها كل صباح، إلى جانب استمرار مترجمة (أشباهنا في العالم) في رفد المكتبة بالأعمال التي نقلتها إلى العربية. عن تجربة الترجمة اليومية، تقول بثينة الإبراهيم: "كان أول مقطع أترجمه منفصلًا –أعني دون أن يكون في مقال أو عمل كامل- في شهر يونيو من العام الماضي، كنت أقرأ رواية لخابيير مارياس وأعجبتني عدة مقاطع من الرواية، كان أولها ذاك الذي يصف فيه يدي امرأة تجلس أمامه في القطار، لم يكن هناك خطة مسبقة لهذا، كان الأمر بسيطًا جدًا في حينها". وحول مسألة الالتزام في الترجمة اليومية، وأهميته على المترجم من حيث تطوير الأدوات وصقل التجربة، تقول الإبراهيم: "ربما لا يلتزم كل المترجمين بترجمة يومية، إلا لو كانوا مرتبطين بأعمال يودون إنجازها سريعًا، لكن من تجربتي الشخصية؛ أجد أنها لا تختلف أبدًا عن ممارسة التمارين الرياضية يوميًا، كلاهما تصقل العضلات والمهارات&q