التخطي إلى المحتوى الرئيسي

عقد الماس

قصة: خوان رولفو*
ترجمة: محمّد م. الخطابي**
تساقطت الأوراق، وعادت إلى السقوط مرّة، وأخرى، وأخرى... في سرعة يائسة لتدارك الموقف، وقف “ديونيزيو بنسون” الذي فقد في حيرة وتشوّش السيطرة على أعصابه.
على وجهه كان يتصبّب عرق بارد من فرط يأسه، ثمّ سرعان ما بدأ هذا العرق يملأ كلّ جسمه، الآن أصبح يلعب وكأنّه أعمى دون أن يكسب ولو مرّة واحدة، وكان كلّما عاود اللعب إنّما كان يعود ليخسر المزيد فلم يشأ قطعًا الابتعاد عن "الأوراق" التي كان يضعها تحت كوعه كلما انتهى من توزيعها على مشاركيه في اللعب.

كان يقول:
الآن لا يمكنني أن أخسر، ويهمس بكلمات أخرى غير مفهومة وغير واضحة. لا يمكنني أن أخسر.
كان كلّ من مربّي المواشي وطبيبه يَقِظيْن، كما كان هناك رجل آخر يرمقهم جميعا بنظراته المتتبّعة. كان يحدّق النظر في أعينهم وحركاتهم ويتأمّل رباطة جأشهم في اللعب، إلاّ أنّه لم يكن يكترث بما تراه عيناه من الأخطاء والحماقات التي كان يرتكبها ذلك الرجل الذي كان قبل قليل هادئ البال، مالكا لأعصابه ولنفسه، والآن ها هو ذا يلقي بقبضة يده بكل ما يملك على أديم الأرض.
تجرّأ مربّي الماشية على القول:
إنّك تلعب بمصيرك يا سيّد ديونيزيو، لا ينبغي لك أن تلعب بهذا الشكل.
إلاّ أنّ ديونيزيو لم يكن يصغي إلى ما كان يقوله له غريمه.
كان الفجر قد بدأ ينسج خيوطه البيضاء في الآفاق. وطفق الضوء يتسلّل من النوافذ الكبرى واستقرّ على بساط الطاولة الأخضر.
بدأت الوجوه تلمع وهي منهكة من سهر اللاّعبين، كان ديونيزيو يراهن بآخر وثيقة عنده. ترك برهة الأوراق على ظهرها. بينما كان الرجل الآخر يراقب أوراقه، وعندما طلبت منه ورقتين أكثر، سلّمهما في الحين، وعاد للانتظار من جديد، نظر في اتجاه برناردا كوتينيو، كان وجهها شاحبًا وديعًا وهادئًا وهي مستغرقة في سبات عميق. ثمّ حدّق في الرجل الذي يقابله في اللعب محاولا استدرار أو استجلاب علامة ما أو تتبّع أيّ أثر لخمود الهمّة
عندئذ فقط، أرخى الورق، كانت يداه ترتعشان، ومن عينيه كان يخرج بريق معدني كالشّرر. أرخى ثلاثًا وأخذ ثلاثًا أخرى إلاّ أنّه لم يقارنها ببعضها، كان خصمه يعرض لعبه، أمام هذا الذي ليس في يده شيء.
ثمّ صاح:
برناردا، اُصحِي يا برناردا، لقد خسرنا كلّ شيء هل تسمعينني؟ 
اتّجه نحو زوجته التي تغطّ في نوم عميق وهزّها من كتفيها.
-هل تسمعينني يا برناردا...؟ لقد خسرنا كلّ شيء، كلّ شيء، حتى هذا،
وبقوّة اقتلع عقد الماس الذي يطوّق جيد برناردا كوتينيو الذي تناثرت خرزاته في الأرض، وهو ما زال يصيح:
-اُصحِي يا برناردا..
الطبيب الذي كان هناك دنا منهما، أبعد ديونيزيو إلى جانب، وهو يرفع بأصابعه جفني المرأة، بينما كان يفحص قلبها ثمّ قال:
لا يمكنها أن تصحو ..إنّها ميّتة
ثمّ لاحظ الجميع مدى ضياع وانهيار هذا الرجل الذي استمر في هزّ ورجّ زوجته وهو يقول لها: – لماذا لم تخبريني أنّك ميّتة برناردا؟
وعند صيّاح الرجل هرعت ابنتهما برناردا بنسون الابنة، وعندما رآها ديونيزيو بدا كما لو هدأ
قال للصبيّة:
تعالي لتودّعي أمّك.
وبعد أن فهمت ما حدث ارتمت بقوّة في حضن أمّها الميّتة، في حين تحوّل ديونيزيو نحو الرجل الذي كسب ونهب منه تلك الليلة كلّ ما كان يملكه.
وقال له:
في تلك الغرفة أحتفظ بتابوت، وهو يشير إلى باب صغيرة تقع في جانب الصالة.
ذاك لم يدخل في اللعب، كلّ شيء إلا التابوت.
غادر القاعة، وسمعت خطواته الثقيلة وهو يقطع الممرّ الطويل في هذا المنزل الكبير، ثم سمع صوت طلقة نارية كتيمة شبيهة بضربة عصا نزلت على جلد عجل.
——————————–
*من أشهر وأهمّ كتّاب أمريكا اللاتينية في القرن العشرين (1917-1986)، هذه القصّة من مجموعته “السّهل يحترق ” (1953) التي نال بها شهرة عالمية.
**  كاتب، وباحث، ومترجم، وقاصّ، عضو الأكاديمية الإسبانية- الأميركية للآداب والعلوم - بوغوتا- كولومبيا.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

المترجمة بثينة الإبراهيم: الترجمة تقاوم القبح وتدخلنا غابة الكلمات

علي سعيد جريدة الرياض بالنسبة لبثينة الإبراهيم، الترجمة بمثابة مزاولة الرياضة اليومية. المترجمة السورية المقيمة في الكويت، احتفى بها متابعوها على شبكات التواصل لاتمام عامها الأول في نشر مقاطع أدبية واظبت على ترجمتها ونشرها كل صباح، إلى جانب استمرار مترجمة (أشباهنا في العالم) في رفد المكتبة بالأعمال التي نقلتها إلى العربية. عن تجربة الترجمة اليومية، تقول بثينة الإبراهيم: "كان أول مقطع أترجمه منفصلًا –أعني دون أن يكون في مقال أو عمل كامل- في شهر يونيو من العام الماضي، كنت أقرأ رواية لخابيير مارياس وأعجبتني عدة مقاطع من الرواية، كان أولها ذاك الذي يصف فيه يدي امرأة تجلس أمامه في القطار، لم يكن هناك خطة مسبقة لهذا، كان الأمر بسيطًا جدًا في حينها". وحول مسألة الالتزام في الترجمة اليومية، وأهميته على المترجم من حيث تطوير الأدوات وصقل التجربة، تقول الإبراهيم: "ربما لا يلتزم كل المترجمين بترجمة يومية، إلا لو كانوا مرتبطين بأعمال يودون إنجازها سريعًا، لكن من تجربتي الشخصية؛ أجد أنها لا تختلف أبدًا عن ممارسة التمارين الرياضية يوميًا، كلاهما تصقل العضلات والمهارات&q