التخطي إلى المحتوى الرئيسي

صالح علماني: عشتُ لأترجِم

عبد يغوث


بصوت هادئ يبدو طالعاً من "الغرائبية السحرية" لأدب أميركا اللاتينية وبتواضع لمنجزه الترجمي الذي قارب المئة كتاب منذ "مئة عام من العزلة" و"ليس لدى الكولونيل من يكاتبه" لماركيز؛ يعترف المترجم الفلسطيني صالح علماني بأن الإطراء الذي لقيه عمله الأول هو الذي جعله يقرر أن يكون مترجماً ويشعر أن قدره أن يعيش ليترجم.

وقال علماني، في جلسة حوارية ضمن فعاليات "مهرجان مسقط"، إن للترجمة فضل كبير عليه، أكثر مما له عليها حيث إنه لم يختر الإسبانية لغة لينقلها إلى العربية، بل هي التي اختارته -على حد تعبيره- أثناء دراسته الطب، مشيراً إلى أن الظروف لعبت دوراً مهماً وساعدته كمترجم مع صعود تيار الرواية اللاتينية وبروزها عالمياً في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، وهو مدين في شهرته لهؤلاء الكتّاب الذين ترجم لهم. واستطرد قائلا إن هذا الفضل توّج أخيراً بأن مُنح الإقامة في إسبانيا مع عائلته بعد نزوحه من سورية، إثر مطالبة خمسة من أبرز كتّاب أميركا اللاتينية الذين ترجم لهم، حكومة إسبانيا بأن تمنحه الإقامة تكريماً لمنجزه في نقل إبداعات اللغة الإسبانية إلى العربية.


وبما أنه كان يعيش وضعاً صعباً بسبب المأساة السورية، فالمكالمة الهاتفية التي وردته بهذا الخبر جعلته يبكي، وهو مدين بهذا للترجمة ولأصدقائه الكتّاب، معترفاً أن هذا شيء أخجله حقاً، لأن الناس ما زالت تتذكر أن هناك مترجماً.

وزاد من هذا الاحتفاء بأن مُنح أيضاً جائزة "جيرار دي كريمونا" للترجمة العام الماضي، وهي جائزة سنوية مخصصة لمساهمة مهمة من شخص أو مؤسسة من الضفة الشمالية ومن الضفة الجنوبية للمتوسط في ميدان الترجمة وتحمل اسم جيرار دي كريمونا (1114 – 1187) الذي درس العلوم العربية في القرن الثاني عشر، وترجم أكثر من سبعين كتاباً إلى اللغة اللاتينية في الوقت الذي رد فيه علماني الجميل بأن ترجم مئة كتاب من اللغات اللاتينية إلى العربية.

وفي معرض رده على سؤال حول تقنية الترجمة أو خلطته السحرية في الترجمة التي تكاد تقارب النص الأصلي، قال مترجم "عشت لأروي" إنه لا توجد ترجمة أفضل من النص الأصلي في أية لغة، خاصة الشعر، معترفاً بأنه لا يقدم على ترجمة عمل ما لم يقع في حُبه، حيث رفض بعض الأعمال التي لم ترق له واعتذر عن ترجمتها، معرّجاً في إجابته على "تقنيته الترجمية" المتمثّلة في القراءة الاستطلاعية للعمل ثم قراءة العمل مرة أخرى وترجمة فصل أو فصلين ثم معاودة القراءة من حيث انتهى.

 وهكذا ذاهباً وراجعاً بين قراءة العمل وترجمته حد الإجهاد، مع ضرورة فهم السياق التاريخي والثقافي للعمل المُترجم لفهم الإيحاءات والمعاني الملتبسة، تليها القراءة الأخيرة للعمل ليضع نفسه مكان القارئ ويشعر بسلاسة القراءة حتى يصل إلى الحالة المُرضية للترجمة النهائية.

وأضاف علماني أن المشكلة أثناء الترجمة في اللهجات الأميركية اللاتينية وليس في اللغة الإسبانية، والتي تختلف من بلد إلى آخر، لذلك فإن دراسته الطب وعيشه في هذا البلد ومعرفتة لشعوب القارة وأحوال معيشتهم وحكاياتهم وخرافاتهم وآلامهم وموسيقاهم، واطلاعه على تاريخ أميركا اللاتينية؛ كل ذلك ساعده كثيراً على فهم هذه الاختلافات النابعة على حد تعبيره من تركيبة هذه القارة وشعوبها المتعددة الأعراق والتي تميل إلى "الحياة شبه الفوضوية وعدم الصرامة". 

كما أشار إلى تأثير المستعمر الإسباني الذي دمر حضارات بأكملها كحضارات المايا والأزتيك والإنكا، لكنه اضطر في النهاية ومن خلال مجمع اللغة الإسبانية إلى أن يعترف بهذه اللغات "الهندية" كون نصف أعضائه من جميع بلدان القارة، وبدأ يضيف الكلمات العامية إلى معجمه مما أغنى اللغة الإسبانية، بسبب انتشار ظاهرة الأدب اللاتيني، ما يعني أن المستعمَر فرض على المستعمِر لغاته الأم.

وضرب علماني مثلا في صعوبة ترجمة بعض الكلمات التي لها معانٍ مختلفة من بلد لآخر، بكلمة "خُلاسية" إذ توجد ست مسميات للأنواع الخلاسية في القارة الأميركية تبعاً لعرق الوالدين، وهذا ما يوجب توضيحه في الترجمة، كما أنه وقع حائراً في ترجمة كلمة "غانية" في كتاب ماركيز "ذاكرة غانياتي الحزينات" التي تعني في الأصل كلمة أكثر بذاءة من كلمة "عاهرة".

وقال مبتسماً بأن العربية لا تعدم طبعاً مرادفات لهذه الكلمة، متذكّراً أن وزير الثقافة الكولومبي قال له إنه لا يسمح شخصياً لابنته بقراءة عنوان كهذا، ما جعله في النهاية يستقر على كلمة "غانية" بكل دلالاتها في اللغة العربية. يعتبر علماني نفسه محظوظاً، فرغم أن المترجم لا يمكنه العيش من الترجمة، إلا أنه سعيد بما منحته الترجمة من دخل مادي يساعده في معيشته وأسرته، فرغم مشاق الترجمة المعروفة؛ إلا أن الترجمة الأدبية خصوصاً ممتعة وشيّقة، لأنك تترجم في النهاية "الجانب الإنساني في الإنسانية". 
المترجِم شريكاً

يعترف علماني للحضور في الندوة العُمانية أن المترجم موجود في أعماله، وهو يرى أن المترجم شريك للكاتب في العمل، حتى إن الهيئات القانونية في إسبانيا تعتبر المترجم "مؤلّفاً للترجمة"، ولكن في بلداننا العربية لم نصل بعد إلى هذا الاعتراف، مشيراً إلى أنه فكر في وضع كتاب عن تجربته، لكنه أجّله كما أجّل فكرة كتابة رواية بعد أن قرأ وترجم "ليس لدى الكولونيل من يكاتبه" لكن الفكرة قائمة على أية حال


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا