التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الكاتب المكسيكي خوان رولفو: صانع العجلات المطّاطية الذي ارتقى إلى مصافّ سوفوكليس

الكاتب المكسيكي خوان رولفو: صانع العجلات المطّاطية الذي ارتقى إلى مصافّ سوفوكليس.



81 رسالة مكتوبة بين 1946 و 1950، تكشف لنا عن جوانب غير معروفة فى حياة هذا الكاتب المكسيكي الكبير خوان رولفو في شبابه، هذه الرسائل التي وجّهها رولفو إلى زوجته يتضمّنها كتاب يحمل عنوان'هواء التلال'،.
يقول الناقد الاسباني كارلوس بلانكو أغينارا: إننا نجد في أدب رولفو دائما شخصيات مّا تتحدث، أو بالأحرى تهمس كما هو الحال في 'بيدرو بارامو'، ففي القصّة يصل خوان برسيادو إلى كومالا باحثا عن والده، ويذرع الشوارع الغارقة في ضباب كثيف، ويكتشف أنّ مخاطبيه لا وجود لهم، إذ إنهم في الواقع قد فارقوا الحياة منذ مدّة وهم الآن أرواح هائمة تبحث عن أحد الأحياء لتصلي من أجله، ثم يكتشف برسيادو شيئا آخر، جميع الذين يلتقي بهم من الغرباء، يعاملونه معاملة حميمية عائلية، لأنه في الواقع ينتمي لعالمهم، إذ يموت البطل بالفعل في الصفحة 73 من الكتاب، لكن القصّة تستمرّ باستعمال أصوات مستقلة.
صيّاح الضمير في متاهات الصّمت .
رولفو كما يؤكّد الناقد' خوان بيغورو'، يفجّر الكلام العامي في البادية المكسيكية، وهو يحرص على أن تصل الكلمات إلى المتلقيّ في إنسياب ومن دون قيود، حيث تغدو كلماته وكأنها مجترّة بفعل هبوب الرياح. وفي قصص رائعته 'السهل الملتهب'، يكمن عمق وقوة هذه القصص في حوارياتها وفي إطلاق العنان للضمير من عتمة الليالي الحالكة في شكل ذبذبات صوتية تكاد لا تسمع، حيث يخيّل للسامع وكأنّ ناطقيها لا صوت لهم. إنها أصوات خالية من أدنى حشرجة أو ضجيج.وقد أشار بعض الدارسين لأعمال رولفو إلى انّ الكاتب كان يستند إلى تجربته الشخصية في حظيرة عائلته ،فيعيد سرد الحكايات ذاتها التي سمعها من فم رجال قريته. إن قمّة معاناة رولفو تتجسّد بالفعل في هذا الأسلوب الآسر العميق المشحون بالأفكار المحيّرة، فقد اخترع رولفو طريقة رمزية لنعت هؤلاء المنكودين من المعذّبين في الأرض المنتشرين في أماكن وأصقاع نائية مهجورة، إختفى فيها كل الناس، وإمّحى فيها كل أثر للحياة، إختفى كل شيء حتى كلابها، فلم يعد هناك من نباح أو صياح في وجه الصّمت القاتل المطبق، أبطاله أناس وشخصيات منبوذة في التاريخ، أناس غارقون في البؤس والتعاسة حتى أصبحوا لا يهابون أيّ شيء. في هذا الجوّ المضطرب، وفي خضمّ العنف الخارجي للحياة في الأجواء البائسة والصامتة للقرى والمداشر المكسيكية النائية، تتحرّك هذه الشخصيات التي ينعكس عليها وعلى طباعها وتصرّفاتها كل ما تراه أو تسمعه أو تلمسه
رولفو بعيون غونتر غراس
عندما وصل خوان رولفو عام 1982 إلى قاعة المهرجان الأدبي العالمي ببرلين الغربية إكتشف أنه قد نسي نظارته، وصارالحضور من كل نوع، ومن مختلف أصقاع المعمورة يتطلعون إليه بشغف، ويترقبون ما سوف يقوله لهم صاحب 'بيدرو بارامو'، الذي كان جالسا إلى جانب الشاعر الالماني غونتر غراس، فاستعار رولفو نظارة غراس، وقال للحضور إنه سوف يقرأ عرضه بعيون معلّمه!
إن رولفو مثل ثعلب صديقه الكاتب الهوندوري الكبير'أوغوستو مونطيرّوسو' الذي يطلب من الثعلب كتابة قصة ثانية، ويكتب الثعلب قصة رائعة، ويعود ليطلب منه المعجبون به أن يكتب قصة ثالثة، وذلك في محاولة منهم لاستدراجه للفشل والتكرار، ويكتشف الثعلب المكيدة، ويقرّر إلتزام الصّمت. وهذا ما حدث لرولفو بالفعل، وكأنّ قصّة مونطيروسو مستوحاة من حياة رولفو نفسه، وهي مدرجة ضمن مجموعة أوغوستو مونطيرّوسو التي تحمل عنوان 'الشاة السوداء وحكايات أخرى'، لقد إلتزم رولفو الصّمت بعد أن أدرك قمّة سلّم المجد الأدبي بعمليه المقتضبين الرائعين 'بيدرو بارامو'، و'السهل الملتهب'الذين أكّد بهما للعالم أجمع أنّ الأدب الحق هو بالفعل ما قلّ ودلّ، وليس بالهذر طوّلت خطبه.
خوان رولفو لم يفكّر قطّ في حياته نشر كتاب 'هواء التلال' المتضمّن لرسائله إلى زوجته 'كلارا' التي وجّهها إليها وهي بعد في مقتبل العمر. تحفل هذه الرسائل بالأدب الرفيع، والتحليل الدقيق لمجريات الحياة وتسجيل كل ما يجري ويدورحوله في تلك الفترة من حياته. في إحدى الرسائل التي كتبها رولفو لكلارا عام 1941، يقول عن أحد المصانع التي كان يعمل بها: 'إنّهم (العمّال) ليس في مقدورهم رؤية السماء، يعيشون في الظل الذي يزداد ظلاما وحلكة من فرط كثافة الدخان المتصاعد، يعيشون وقد اكتسب لونهم السواد لمدّة ثماني ساعات متوالية خلال الليل والنهار، كما لو لم يكن هناك وجود للشمس أو السحاب في السماء، كما لو لم يكن هناك هواء نقيّ ليستنشقوه. هكذا دائما من دون كلل حتى يوم مماتهم، حين يرتاحون. إنني أحكي لك عمّا يجري مع عمّال هذا المصنع الذي يغشاه الدخان من كل جانب ،وتنبعث منه رائحة كريهة، ومع ذلك هم يعملون تحت رقابة مشدّدة كأن لم تكفهم تلك الماكنات العملاقة التي لا تعرف سلام التنفس، وأظنّ أنني لن أتحمّل طويلا بأن أكون ذلك العريف الذي يريدونني أن أكونه في هذا المصنع. إن مجرّد التفكير في العمل بهذه الطريقة يزجّ بي في دهاليز أحزان لا قرار لها، ويجعلني أشعر بمرارة، إلا أن التفكير فقط في أنّك موجودة يقصي عني تلك الأحزان، ويبعد عني تلك المرارة الكريهة'. وجاءت في إحدى الرسائل هذه المقطوعة: 'اليوم جئت منك إليك مشدوداً إلى ظلِّك، متأملاً الليل، أنظر إلى السحاب السابح وسط الظلام كدموع تحيط بالقمر البهيج ،الأشجار حالكة، والنجوم رخوة اليوم، رأيت كيف كان الليل عاليا جدا في كل مكان، وتوقفت أحدّق فيه كمن يتوقف عن المشي بعد أن أضناه المسير'.
على ضفاف وادي الحجارة
تقول ' كلارا' إن كتاب 'هواء التلال' الذي نشر بعد رحيل رولفو، يلقي الضوء على العديد من القضايا التي لها صلة بكتاباته وبه شخصيا مثل إدّعاء بعض النقاد بأنه كاتب برز في غضون سنتين، وأنه لم يكن يجيد الكتابة قبل ذلك، خاصة أنه كان يعمل داخل مصنع للعجلات المطاطية. و نكتشف في هذا الكتاب أن بعض مضامين قصصه التي حقّقت نجاحاً باهرا وانتشارا منقطع النظير كانت تدور بخلده منذ ذلك الأوان، مثل قصته الشهيرة 'بيدرو بارامو'، حيث كان يفكّر في وضع عنوان آخر لها وهو 'نجمة إلى جانب القمر' أو 'همسات'. وتلقي هذه الرسائل الضوء من جهة أخرى على كيفية ولادة هذا الكاتب، كما تتضمّن حقائق مثيرة عن حياته في طور الشباب تتنافى مع ما قيل عنه في بلده المكسيك. وتشير' كلارا 'إلى أن زوجها كافح وعمل كثيرا حتى أصبح كاتبا ذا شأن كبير في بلده، إنه كان في حاجة إلى مَن يشدّ أزره وسط هذا الخضمّ الهائل، وكانت كلارا تشجعه على المضيّ قدما في السبيل الذي اختاره لنفسه ،وكانت تقول له دائما: 'كافح من أجل شيء أحببته'.
لقد أحبّ رولفو كلارا عندما كانت تبلغ من العمر ثلاثة عشر ربيعا، واشترطت عليه أن يتريّث ويصبر مدّة ثلاث سنوات ليصبحا خطيبين. وكان رولفو قد تعرّف على زوجته في محل لبيع المثلجات (البوظة) في مدينة 'وادي الحجارة' المكسيكية، وكانت تصغره بعشر سنوات. وتشير كلارا إلى أن جميع الرسائل التي وجّهها إليها زوجها تحتل مكانا خاصا في قلبها، وقد قرأتها عدّة مرات وكانت تحتفظ بها، من دون علم منه، حيث لم يسألها قط عنها. قال لها ذات مرّة عندما أهداها أحد كتبه: هذا الكتاب مكتوب على هيئة صورتك، ولقد تألقت صفحاته بقلبك.
تعرّض رولفو لتهجمات عنيفة من طرف معاصريه من الكتّاب المكسيكيين، وقد بلغ به الأمر في بعض الأحيان أن مزّق قصصا كان قد كتبها من فرط حزنه وتعاسته. لقد كتب ذات مرّة يقول لزوجته في هذا السياق: 'إننا نعيش في عالم تملأه البقرات الهزيلة، حيث نرى أن الفقراء يزدادون فقراً، والأغنياء تنتقص وتبتزّ ثرواتهم، إلا أننا لم نختر هذا الزمن الذي نعيشه، بل لقد فرض علينا فرضاً، لقد ولدنا بأعجوبة، وترعرعنا بأعجوبة، وهذه الحياة التي ما زالت توهب لنا هي شيء شبيه بالمعجزة، ولهذا فأنا لا أشكّ، خاصة الآن، أننا نحن الاثنين معا، سنصبح قوّتين لنتحمّل قوة الحبّ والسعادة، أو ثقل الحزن والألم أو أي شيء آخر قادم، هكذا سنكون أنا وأنت صديقين حميمين يدعيان كلارا وخوان، سنكون كصخرة صامدة في وجه التيارات العاتية، والأنهار الجارية الجارفة، متآزرين بثبات ضد كل شيء، سنصنع عالماً خاصاً بنا، عالمك وعالمي، هذا ما أرجوه لك، أن أمنحك كل ما هو موجود، إلا أنه يتعذّر علينا أن نصبح مثل الآلهة، فنحن لسنا سوى مخلوقات بشرية تعيسة، وعلينا أن نطلب من الخالق أن ينظر إلى حالنا'.
في مصاف سوفوكليس
لقد وصف الكاتب الكولومبي الكبير غابرييل غارسيا ماركيز (الحاصل على جائزة نوبل في الآداب 1982) الثلاثمائة صفحة التي تتألف منها أعمال رولفو، بأنها قد وضعته في مصاف أعمال سوفوكليس. ويرى الكاتب الاسباني خوان بونيا أن الفرق بين رسائل خوان رولفو إلى كلارا أبارسيو، ورسائل غوستاف فلوبير إلى لويز كويير واضح، فأنت في مقدورك أن تقرأ رسائل فلوبير وتستمتع بها بصمت حتى ولو لم تكن قد قرأت 'مدام بوفاري'، إلا أن الذي لم يسبق له أن قرأ 'بيدرو بارامو' أو 'السّهل الملتهب' ويشعر بالتالي بإعجاب كبير مسبق نحو هذا الكاتب الفذّ، قد لا يستمتع بعمق بهذه الرسائل الفريدة.
يقول رولفو عن عائلته: كانت أسرة متعددة الأفراد، لم يعيشوا قطّ فترات سلام في حياتهم، كانوا كلّهم يموتون في سنّ مبكّرة، وجميعهم ماتوا بطعنة من الخلف، وانّ أحد أفراد عائلته وهو دافيد قتله جواد والده، مات مغتالاً، كذلك مثل إمليانو ساباتا، وسانشو فيّيا، كلّهم ماتوا على أثر كمين نصب لهم، كلهم ماتوا في الثالثة والثلاثين من عمرهم .!
كم أنت محقّ يا 'غابرييل ' أجل ..ثلاثمائة صفحة فقط من الإنتاج الأدبي وضعت العامل فى مصنع العجلات المطّاطية هذا 'خوان رولفو' في مصافّ سوفوكليس. ولا عجب إن كان الذي يقول هذا هو الكاتب العالمي 'غابرييل غارسيا ماركيز' نفسه إذا علمنا أنّ بلديّه الكاتب الكولومبي الكبير'ألفارو موتيس' عندما أهدى إليه لاوّل مرّة كتاب 'بيدرو بارامو' لرولفو ناوله إيّاه وهو يقول له: خذ تعلّم.


                                             محمد الخطابي 
                                      عن جريدة القدس العربي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

المترجمة بثينة الإبراهيم: الترجمة تقاوم القبح وتدخلنا غابة الكلمات

علي سعيد جريدة الرياض بالنسبة لبثينة الإبراهيم، الترجمة بمثابة مزاولة الرياضة اليومية. المترجمة السورية المقيمة في الكويت، احتفى بها متابعوها على شبكات التواصل لاتمام عامها الأول في نشر مقاطع أدبية واظبت على ترجمتها ونشرها كل صباح، إلى جانب استمرار مترجمة (أشباهنا في العالم) في رفد المكتبة بالأعمال التي نقلتها إلى العربية. عن تجربة الترجمة اليومية، تقول بثينة الإبراهيم: "كان أول مقطع أترجمه منفصلًا –أعني دون أن يكون في مقال أو عمل كامل- في شهر يونيو من العام الماضي، كنت أقرأ رواية لخابيير مارياس وأعجبتني عدة مقاطع من الرواية، كان أولها ذاك الذي يصف فيه يدي امرأة تجلس أمامه في القطار، لم يكن هناك خطة مسبقة لهذا، كان الأمر بسيطًا جدًا في حينها". وحول مسألة الالتزام في الترجمة اليومية، وأهميته على المترجم من حيث تطوير الأدوات وصقل التجربة، تقول الإبراهيم: "ربما لا يلتزم كل المترجمين بترجمة يومية، إلا لو كانوا مرتبطين بأعمال يودون إنجازها سريعًا، لكن من تجربتي الشخصية؛ أجد أنها لا تختلف أبدًا عن ممارسة التمارين الرياضية يوميًا، كلاهما تصقل العضلات والمهارات&q