التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الأسيــــــــــــــــاد

                               
الأسيــــــــاد
قصة: خوان بوش (جمهورية الدومنيكان)
ترجمة: توفيق البوركي
مراجعة وتدقيق: ذ. محمد أنديش
 

عندما لم يعد كريستينو يصلح حتى لحلب بقرة، استدعاه مُشغٌله الدون بيو وأخبره بأنه سيقدم له هديٌة.
- سأعطيك نصف أجرتك على أن ترحل، لقد ساءت حالتك ولم يعد بوسعك مواصلة العمل. بإمكانك العودة وقتما تحسنت.
مد كريستينو يده الشاحبة وهي ترتعش مصافحا الدون:
-شكرا يا سيدي، وددت لو استطعت أن أرحل الآن، لكنني محموم.
- تستطيع البقاء هذه الليلة، إذا شئت، بإمكانك أيضا تناول منقوع بحليب الماعز، سيفيدك كثيرا.
نزع كريستينو قبعته، فانسدل شعره الأسود الكثيف على عنقه وبدت لحيته القليلة كبقع متناثرة على وجنتيه البارزتين.
-حسنا يا دون بيو، جزآك الله خير الجزاء.
نزل الأدراج ببطء، بينما كان يعيد ارتداء قبعته الصوفية السوداء القديمة. عند نزوله توقف للحظة يتأمل منظر البقرات رفقة صغارها.
-كم يبدو هذا العجل نشيطا. علٌق بصوت خفيض.
إنه أحد تلك العجول التي عالجها منذ أيام خلت، كان يعاني من ديدان في سرته وهاهو الآن يمشي وينط بمرح.
خرج الدون بيو إلى الشرفة ووقف بدوره متأملا القطيع، كان شخصا قصيرا، وممتلئا ، ذا عينين صغيرتين لماحتين. أمضى كريستسنو في خدمته ثلاث سنوات، يؤدي له بيسو نهاية كل أسبوع نظير حلبه للأبقار في الصباح الباكر و الاهتمام بأمور المنزل و العناية بالقطيع. طيلة هذه المدة كلها كان كريستينو شخصا هادئا وخدوما لكنه للأسف مرض والدون بيو لا يرغب بأشخاص مرضى في منزله.
مد الدون بصره، بعيدا هناك الأشجار الكثيفة التي تحجب مجرى الوادي وأعلاها تلوح أسراب الذباب. أمر الدون أن توضع شبابيك حديدية لأبواب ونوافذ المنزل في حين كانت أكواخ العمال بلا نوافذ و لا أبواب بل حتى بلا سياج.
تحرك كريستينو باتجاه الأسفل وعند أول درج أراد الدون أن يقدم له آخر نصائحه:
-كريستينو، عندما تصل إلى منزلك قم بعلاج نفسك.
- نعم ولم لا، شكرا جزيلا. سمعه وهو يجيب
كانت الشمس تغلي في كل ورقة على امتداد السهل. وكل شيء في تلك الروابي يلمع تحت أشعتها الحارقة.
بجانب المراعي، كانت هناك بقرتان ترعيان بعيدا، بالكاد استطاع تمييزهما، لكن كريستينو يعرف القطيع جيدا.
-أيها الدون، انظر الى تلك البقرة هناك لابد أنها وضعت حملها ليلة أمس أو في صباح اليوم فبطنها لا يبدو منتفخا.
هل تعتقد ذلك كريستينو؟ فأنا لا أرى شيئا. قال ذلك وهو يتقدم إلى الأمام.-
-أدنو إلى الجهة المقابلة وستراها.
كان كريستينو يعاني من قشعريرة ورأسه بدأت تؤلمه لكنه واصل النظر إلى الحيوان.
-هيا يا كريستينو وأحضر البقرة.
-كنت لأحضرها لكن حالتي سيئة للغاية.
- أهي الحمى؟
-نعم، إنها في تزايد.
-هذا لا يهم، فأنت معتاد على ذلك، هيا اذهب واجلب البقرة.
شد ذراعيه النحيلين حول صدره وقد أحس بالبرد يجتاح جسده.
-هل ستحضرها؟ قال الدون بإصرار غير آبه بحرارة الجو والحال التي عليها العامل المغلوب على أمره.
-هل ستذهب للبحث عنها يا كريستينو؟
أراد أن يجيب لكنه أحس بثقل في لسانه وهو يواصل الضغط بذراعيه على صدره، كان يرتدي قميصا متسخا، رقيق القماش، بالكاد يقي جسده.
أحس بوقع أقدام في الأعلى فظن أن الدون سينزل فشعر بالخوف.
-حسنا يا سيدي سأذهب للبحث عنها، انتظر فقط أن يذهب عني البرد.
- حرارة الشمس ستساعدك، هيا يا كريستينو، فالبقرة ستضيع مني وقد يضيع العجل الصغير أيضا. اصنع لي هذا المعروف.
لازالت فرائص كريستينو ترتعش لكنه بدأ يقف رويدا رويدا.
-حسنا يا سيدي سأذهب.
-إنها الآن عند منعطف النهر. قال الدون بيو موضحا من أعلى الشرفة.
مضى كريستينو منحنيا وذراعاه معقودان حول صدره طلبا للدف، خطوة خطوة مجتازا حقل السفانا بينما الدون يراقبه موليا ظهره إلى الوراء. في تلك الأثناء تسللت سيدة إلى الشرفة ووقفت إلى جانبه.
-أوه بيو، يا له من يوم جميل. قالتها بدلال.
لم يجب الرجل وإنما أشار ناحية كريستينو الذي كان يبتعد بخطى متعثرة.
-لم يكن يريد الذهاب للبحث عن البقرة التي وضعت ليلة أمس، وكنت قد منحته منذ قليل نصف أجرته لتعينه على الطريق.
صمت برهة ثم نظر إلى المرأة التي على ما يبدو كانت تطالب بمزيد من التوضيح.
-يا لهم من جاحدين يا إرمينيا -قال- لا تنفع معهم المعاملة الحسنة.
أمٌنت على كلامه بنظرة منها.
-لقد أخبرتك بذلك أكثر من مرة يا بيو.
قالت ذلك وهما ينظران إلى المسكين كريستينو الذي لم يعد سوى بقعة فوق بساط السفانا الأخضر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تمت الترجمة يوم الثلاثاء 30 أكتوبر 2012 
نشرت هذه الترجمة في موقعي المحلاج و الفوانيس القصصية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا