التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مكتب الإحصاءات الحيوية

قصة: بريمو ليفي*
ترجمة: عائشة أحمد
كانت هناك أربعة مصاعد، لكن واحدًا منها، كالعادة، كان خارج الخدمة. لم يكن دائمًا نفس المصعد، وحتى اللافتة المعلقة على الباب لم تكن ذاتها. هذه اللافتة مثلًا كُتب عليها «خارج الخدمة»؛ وأخرى قد تقول «لا يعمل» أو «مُعطل» أو «الرجاء عدم اللمس» أو حتى «يعود للعمل قريبًا». لربما كان البواب، أو المشرف المراقب هو من يقوم بتغيير اللافتات بناء على نزوة تهكمية غامضة. كانت هناك طوابير أمام المصاعد الثلاثة الأخرى، وهذا أيضًا كان يحدث كل يوم، عند بداية ونهاية كل نهار عمل. ولو لم يكن مكتب آريجو في الدور التاسع، لاستخدم السلالم؛ وهذا ما كان يفعله أحيانًا لغرض التمرين الجسدي، لكنه في ذلك الصباح أحس بشيء من التعب.

أخيرًا وصل المصعد، وكان ممتلئًا عن آخره بالموظفين الآتين من الطابق تحت الأرضي وما يحاذيه. شق آريجو طريقه بحيوية وانسياب. دخل المصعد الذي يتوقف باهتزازة عند كل طابق، والناس تدخل وتخرج تحيي بعضها دون تركيز. وفي الدور التاسع خرج آريجو ومرَّر بطاقة الدخول. منذ سنتين صار هناك ساعة في كل طابق. وكان هذا ابتكارًا منطقيًا؛ ففي السابق، لم توجد سوى ساعة واحدة في الطابق الأرضي، وكانت تتسبب بازدحام رهيب، بسبب قلة الانضباط، وتدافُع الناس للوصول سريعًا. في المكتب، كان الناس أخذوا مكانهم وراء طاولات عملهم. جلس آريجو في موضعه، سحب الصورة الملونة لزوجته وابنتهما الصغيرة من الدرج العلوي، ومن الدرج الثاني استخرج أدوات الكتابة والبطاقات من اليوم السابق. كان ذلك نتيجة لواحدة من هواجس المدير: ففي نهاية النهار، يجب أن يتم إخلاء جميع الطاولات من كل ما عليها. لا أحد يعلم السبب، بالتأكيد ليس للتنظيف، لأنه لا يتم تنظيفها سوى مرتين أو ثلاث في السنة؛ فإن لم ترغب بالغبار على طاولتك، عليك تنظيفها بنفسك.
وظيفة آريجو كانت ذات طبيعة إدارية. كل يوم يستلم رزمة من البطاقات من الدور العلوي. كل بطاقة تحوي اسم إنسان وسنة وفاته أو وفاتها؛ وعلى آريجو أن يحدد الأسباب. غالبًا يتملكه الغضب لأسباب مختلفة. سنة انتهاء الصلاحية لم تكن نفسها: من الممكن أن تكون بعد سنوات، أو بعد شهور أو أيام، لسبب غير معلوم، وكان يعتريه شعور بأن هذا غير عادل. ولم يبد الأمر منطقيًا، فلا قوانين تحدد العمر: في بعض الأيام يتسلم مئات البطاقات لحديثي الولادة. ويشتكي المدير لاحقًا أن آريجو يستخدم نماذج عامة: لا بد أن الرجل سادي أو معجب بأخبار الجرائم. لم يكن كافيًا كتابة «حادث». كان يريد من آريجو كل التفاصيل ولم يكن من السهل إرضاؤه. كان يطالب برؤية صلة بين ما ورد على بطاقة البيانات وسبب الوفاة، ولطالما تسبب هذا بإحراج آريجو.
البطاقة الأولى لليوم لم تكن مشكلة. حملت اسم يين تشينج-هاسو، في الثامنة والخمسين من العمر، أعزب، ولد في هان تو، حيث يعيش إلى الآن، يعمل في ميناء، لا أمراض تذكر. لا يعرف آريجو أين تقع هان تو؛ ولو استعان بالأطلس في كل مرة، ما كان ليتمكن من إنهاء ولو جزء من عمله. ما زال أمام يين ستة وثلاثين يومًا ليعيشها، ويتخيله آريجو ووراءه خلفية لشمس غاربة في مكان استوائي، يجلس على لفافة من حبال غليظة في مواجهة البحر العكر بلون الموز الناضج؛ كان مرهقًا بفعل عمله اليومي. حزين ووحيد. رجل مثله لا يخشى الموت لكنه لا يطلبه أيضًا، ومع ذلك يتصرف بقليل من الاكتراث. فكر آريجو به للحظة ثم قرر مصيره بأن يقع من على سقالة: لن يتعذب كثيرًا.
بيدرو جونزالس دي إسلافا لم يسبب له الكثير من المشاكل أيضًا. فعلى الرغم من الاسم الرنان، لا بد أنه شيطان فقير-يشرب كثيرًا ومتورط في شجارات متعددة بين المهاجرين غير القانونيين، ويبلغ الخامسة والأربعين من عمره، وعمل في نصف دستة من المزارع أقصى الجنوب. ما زال أمامه خمسة شهور وسيترك وراءه أربعة أطفال، لكنهم على أية حال يعيشون مع زوجته وليس معه. الزوجة بورتوريكية ومثل بيدرو؛ كانت شابة، وتعمل أيضًا. راجع آريجو الموسوعة الطبية واستخرج سببًا للوفاة: التهاب الكبد.
كان يدرس البطاقة الثالثة عندما اتصلت به فيرناندا على الهاتف. قرأت في الصحيفة أن فيلم «ميتروبولوس» يُعرض في أحد نوادي السينما الفنية؛ لِم لا يذهبان لمشاهدته الليلة؟ لا يحب آريجو أن تتم مقاطعته أثناء العمل. البطاقة الثالثة كانت واضحة تقريبًا؛ فالجميع يعرف ما الذي يمكن أن يحدث لرجل يهوى سباق الدراجات. لم يرغمه أحد على فعل ذلك، كان يتوجب عليه فقط أن يختار مهنة أخرى – وفي مثل هذه الحالات فإنه لا حاجة لآريجو لأن يتردد. لكنه أحس بأن عليه توفير التفاصيل المتعلقة بالحادث المُهلك وسجل المشفى.
لم يتعاطف آريجو مع بيير-جان لاموت، الذي ولد في ليون، لكنه في عمر الثانية والثلاثين كان قد أصبح بروفيسورًا في العلوم السياسية في جامعة ريو؛ ومن الواضح أنه كان رجلًا ذو صلات. على الرغم من أنه يتمتع بصحة ممتازة ويلعب التِنس صباح كل يوم إلا أنه لم يتبق له سوى عشرين يومًا فقط. كان آريجو يعتصر ذهنه لإيجاد سبب وفاة ملائم للاموت عندما جاء لاروسو ودعاه لتناول القهوة. نزل آريجو معه لآلة بيع المشروبات في الطابق الرابع. كان لاروسو بليدًا، وله ولد غير ناجح في الرياضيات، فكر آريجو أنه مع أب مثل لاروسو من الصعب أن يكون الابن طفلًا معجزة. لاحقًا، بدأ لاروسو بالشكوى من زوجته التي تبذر المال، وواصل شكواه من الجو الحار.
آلة المشروبات لم تعمل جيدًا هي الأخرى. خبطها لاروسو وفي الأخير بصقت كوبي قهوة باهتة ومن غير طعم لكنها حارة تغلي. وأثناء إرغام آريجو نفسه على تجرع القهوة التي لذعت حنجرته، تحدث لاروسو عن الرواتب التي تجيء دائمًا متأخرة وعن الخصومات الكبيرة التي تقتطع منها. وأخيرًا وراء منضدة عمله، سحق آريجو بيير-جان مثل دودة: نزيف دماغي – هذا كفيل بأن يلقنه درسًا.
في العاشرة تقريبًا، أنهى آريجو البطاقات المتبقية من اليوم السابق، لكن صبي المكتب كان قد وضع البطاقات الجديدة على طاولته. الأولى كانت مجعدة، لعل ذلك بسبب آلة التأريخ: استطاع أن يتعرف على أنها تعود لأنثى من اسمها، آديليا. وضع آريجو البطاقة جانبًا، وهذا أفضل لآديليا: فلطالما كان من الجيد اغتنام وقت أطول. في كل الأحوال، ربما يقرر كتابة تقرير: فمرة بعد مرة تكررت حالة البطاقات الأولى التالفة من كل رزمة، شيء مؤسف، هلا تتكفل الصيانة بتصحيح الوضع رجاء، المخلص لكم. لكنه توقف أمام البطاقة التالية. كارين كفارن في الثامنة من عمرها، ولدت في سليدر، قرية جبلية في قلب النرويج. كارين طفلة وحيدة دون أشقاء، الأمراض (معلومات غير متوفرة)، طالبة، ستموت في اليوم التالي. أحس آريجو أنه عالق. تخيل شعرها الشبيه بالكتان، طيبة، مرحة، هادئة، ووراءها خلفية من الجبال الثابتة المهيبة: إذا كان لا بد أن تموت، فليكن ذلك دونه، لن يكون له يد في هذا الأمر. سحب البطاقة ودق على باب المدير: سمع «تفضل» متذمرة، فدخل وقال إن هذا عار، فالعمل سيء التنظيم، وأن ابتياع الموزع العشوائي كان فكرة حمقاء، والبطاقات مليئة بالأخطاء – هذه هنا على سبيل المثال. كانوا كلهم وصوليين وضعاف الشخصية ولا يجرؤ أحد منهم على الاحتجاج أو أخذ عمله بجدية. ولكنه بلغ حده، وما عاد يكترث بالترقية، ويريد أن يتم نقله.
لا بد أن المدير توقع هذا المشهد من آريجو منذ مدة، لأنه لم يأت بأي تصرف يدل على أنه متفاجئ أو ساخط. من المحتمل أنه سعيد بأنه سيتخلص من مبرمج بهذه الشخصية المهزوزة. طلب من آريجو أن يمر عليه غدًا. وفي اليوم التالي منحه أمر النقل وجعله يوقع على وثيقتين أو ثلاث للتوضيح. وهكذا وجد آريجو أنه تم خفض رتبته من الدرجة السابعة إلى السادسة ونَقَله إلى مكتب صغير في علية المبنى، وجعله مسؤولًا عن اتخاذ قرارات تتعلق بأشكال أنوف الأطفال حديثي الولادة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* يُعتبر ليفي (1919-1987)  واحدًا من أهم كتاب إيطاليا في القرن العشرين، وهو متعدد الوجوه والمواهب، إذ كان مختصًا بالكيمياء بحكم دراسته الجامعية، كما كتب الشعر والقصة القصيرة والرواية، ودوَّن ذكرياته كناجٍ من معتقلات الإبادة النازية في كتاب يحمل عنوان «إن كان هذا إنسانًا» (1947).
تخصصه العلمي يظهر جليًا في كتابته الأدبية التي تصطبغ بلغة علمية رصينة، وبمواضيع غرائبية وفانتازية عصية على التصنيف. مثال على ذلك كتاب «الجدول الدوري» (1975) والذي منحه المعهد الملكي لبريطانيا العظمى مسمى أفضل كتاب علمي في 2006.
ولد ليفي عام 1919 في مدينة تورينو وتوفي عام 1987 متأثرًا بجراحه جراء وقوعه من درج بناية شقته من الطابق الثالث.
قصة «مكتب الإحصاءات الحيوية» نُشرَت لأول مرة عام 1981، وصدرت بالإنجليزية عام 2007 ضمن مجموعة مختارة من أعماله تحت عنوان «نجم هادئ» من ترجمة آن جولدستين وآليساندرا باستاي. (المترجمة)
عن موقع Boring Books

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا