التخطي إلى المحتوى الرئيسي

“فضيحة القرن” تعيد ماركيز إلى الحياة

توفيق البوركي


لمع اسم غابرييل غارسيا ماركيز (6 مارس 1927 -17 أبريل 2014) في سماء الأدب، وذاع صيته في أرجاء العالم بعد فوزه بجائزة نوبل للآداب عام 1982 عن روايته الشهيرة مائة عام من العزلة التي تُرجمت إلى حوالي أربعين لغة، لكن ما يجهله الكثيرون أنّ "غابو"، كما يناديه أصدقاؤه ومحبوه، بدأ مساره صحفيًّا منذ الخمسينات وعمل مراسلا لجرائد ومجلات محلية وعالمية كثيرة أبرزها جريدة الإسبكتادور الكولومبية، ولم تبعده الشهرة، التي حصّلها بفضل نوبل والانتشار الذي حققه أدبه، عن الكتابة الصحفية التي ظل وفيا لها طيلة حياته. قال ذات مرة، على غير ما كان سائدًا حينها: " لا أريد أُذكر من خلال مائة عام من العزلة ولا من خلال جائزة نوبل، بل أريد أن يكون ذلك من خلال الصحافة".
 
لم ينظر ماركيز بدُونية إلى عمله الصحفي، ولم يقل يوما إنّ كتاباته في الصحافة كانت أقل قيمة من منجزه الأدبي. فهو يكتب المادة الصحفية كما أورد صحفي النيويورك تايمز داويت غارنر على لسان ماركيز "بنفس الوعي، ونفس الفرح، وغالباً ما يكون بنفس الإلهام الذي كنت سأكتب به عملا أدبيّا".
يعتبر ماركيز الصحافة "المهنة الأفضل في العالم"، بل يتعدى الأمر ذلك إلى وصفها بأنها "ضرورة بيولوجية للإنسانية"، فهي في تصوّره لا تقدم أخبارًا فحسب، بل إنها تساهم من خلال القصص المختلفة التي ترويها في إسعاد المجتمع.
وقد تهافتت دور النشر العالمية منذ وفاته سنة 2014 وقبلها بقليل على تكريمه بإصدار كتب تتناول سيرته الذاتية ومساره المهني بصفته صحفيًّا داوم على الكتابة لمدة تنيف على الأربعة عقود، وأُعيد طبع كتبه وأعماله الأدبية والصحفية وترجمتها إلى لغات عدة. ومن أهم ما كُتب عنه كتاب "غابو صحافياً" الذي نشرته مؤسسة ماركيز للصحافة الإبيروأميركية الجديدة وشارك فيه مائة صحفي من كل أنحاء العالم. وكتاب "غابو رسائل وذكريات" الذي أصدره بيلينو أبوليو ميندوزا سنة 2013، بالإضافة إلى سيرته الذاتية الضخمة التي حررها الأكاديمي البريطاني جيرارد مارتين سنة 2009.
يأتي الحديث عن هذا الأديب الفذ بمناسبة صدور كتاب جديد له بعنوان "فضيحة القرن[T1] " يضم مقالاته الصحفية التي كتبها ما بين 1950 و1984 وقد قام باختيارها وتحريرها الأكاديمي كرستوبال بيرا وقدّم لها الصحفي الأمريكي جون لي أندرسون، وصدرت عن دار نشر راندوم هاوس موندادوري منتصف الشهر الماضي.
يضم الكتاب بين دفتيه خمسين مقالة عبارة عن تأملات عبقرية ومواضيع عن الحلاقين والرحلات الجوية وترجمة الأدب والكتابة السينمائية وغيرها من المواضيع والمعايشات التي حصلت مع الكاتب خلال تجواله بصفته مراسلا صحفيًّا في أوربا وأمريكا اللاتينية.
وحسب النقاد فإن أكثر ما يلفت النظر في اليوميات والمقالات والأعمدة التي تم جمعها في "فضيحة القرن" هو أن أسلوب غارسيا ماركيز كان دائمًا أدبيًا، لدرجة تتداخل فيها لغة السرد الأدبي مع لغته الصحفية، فيصعب معها معرفة إن كان ما يرويه قصصًا حقيقية أو قصصًا من وحي خياله، إذ يعتمد على أسلوب المبالغة والاستعارات والتشابيه والبلاغة والسخرية والرسم الكاريكاتوري والمفاجأة في سرد الوقائع، كما يفعل في رواياته. وهي حسب داويت غارنر تجعل القارئ طرفا مشاركا في الوقائع والأحداث وليس مجرد متلق عادي، يقول: " تثبت المقالات والأعمدة في (فضيحة القرن) أن صوته المباشر الساخر بخفة بدا وكأنه منطلق من هناك، منذ البداية... إنّه من بين هؤلاء الكتاب الخياليين النادرين الذين يستحق عملهم الإضافي العثور عليه دائماً". أما الصحافي الأميركي جون أندرسون فيقول "إن أهم ما يكتسبه الصحافي من غابو هو طريقته في ملاحظة التفاصيل عندما لا يكون هناك شيء يحدث".
ووفاء منه لعالم الصحافة أسس ماركيز سنة 1994 مؤسسة غابرييل غارسيا ماركيز لدعم الصحافة في أمريكا اللاتينية وخلق جيل من الصحافيين الشباب المحترفين، ورغم أنّ مقرها الرئيس في كولومبيا في مدينة كارطاخينا لكنها تقدم ورشات عمل في الخارج؛ في الأكوادور وفنزويلا والمكسيك، وإسبانيا.
 ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
 لمجلة جيل جديد


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا