التخطي إلى المحتوى الرئيسي

إصابة مزدوجة

بِثينتي بلاسكو إيبانييث
 ترجمها عن الإسبانية: محمد أنديش

لما فتح صِنتو باب كوخه وجد ورقة في فتحة القفل...
كانت رسالةً مجهولة تقطر تهديداً. كانوا يطلبون منه مئتي بسيطة، يضعها تلك الليلة في الفرن المقابل لكوخه.
كانت الضيعة بأسرها مرعوبة من أولئك القُطّاع. ولو أبى أحد تلبية تلك المطالب، فإن حقولَه تصبح مجدوعة، ومحاصيله تالفة، ويمكن حتى أن يفيق عند منتصف الليل ليدرك بالكاد أن يفرّ من سقف القش المتداعي بين ألسنة اللهب والخانق بدخانه الغاشي.
أقسَم جَفَرُّو، الفتى الأشد شكيمة في ضيعة رُصافة، أن يكشفهم، وراح يقضي الليالي متربّصا بين القصب، وحائما حول الطرقات، ممتشِقا البندقية؛ لكنه وُجِد ذات صباح في ساقيةٍ مبقورَ البطن ومشوّه الرأس... وخمِّن من أصابك.

حتى صحف بلنسية تحدثت عما يحدث في الضيعة، حيث تُغلق الأكواخ مع حلول الظلام ويخيّم ذعر أناني، كلٌّ يبحث عن نجاة نفسه، ناسياً جاره. وأمام كل هذا، كان العم باتيست، عمدة تلك المقاطعة من الضيعة، يرغي ويزبد كلما فاتحته السلطات في الأمر، وكانت تحترمه كونَه قوة انتخابية، ويؤكد أنه ومُقدَّمه الوفي سِيغرو، يكفيان للقضاء على تلك الجائحة.
ورغم ذلك، عزم صِنتو على ألا يقصد العمدة. ولِمَ يفعل؟ إذ لا يريد أن يستمع دون طائل لعنتريات وأكاذيب.
واقع الأمر أنهم كانوا يطالبونه بمئتي بسيطة، وإذا لم يضعها في الفرن سيضرمون النار في كوخه، الكوخ الذي يراه كابن له يوشك أن يفقده؛ بجدرانه ناصعة البياض، وسقيفته من التبن المسودّ مع صلبان صغيرة في الأطراف، وستارةٍ على الباب كشباك أخضر تتسرب منه الشمس في نبضات ذهبية؛ وأُصص مجد الصباح وإبرة الراعي تؤثث المسكن، محاطة بسياج من قصب؛ والفرن، وراء شجرة التين، من طين وطوب، مستدير في انبعاجٍ مثل حفرة نمل إفريقية. كانت تلك هي ثروته، العش الذي يُؤوي أغلى ما عنده: زوجته، الصبية الثلاثة، البغلان المسنّان، رفيقان وفيان في المعركة اليومية من أجل اللقمة، والبقرة البيضاء المتورّدة التي تذرع كل صباح أزقة المدينة موقظة الناس بخوارها الحزين بينما تسمح باستدرار ستة ريالات من ضرعها المكتنز. [الرِيال رُبع بسيطة]
كم توجب عليه أن يخدش بُقَع الأرض الأربع تلك التي منذ جده لأبيه تسقيها العائلة بعرقها ودمها، لتجمع حفنة الدوروس التي تحتفظ بها مدفونة في خبيئة تحت السرير! [دورو يساوي خمس بسيطات] بينما يُبتز لتُنتزَع منه أربعون دورو!... لقد كان رجلا مسالماً؛ تشهد له الضيعة بكاملها. فلا يخوض شجارات على السقي، ولا يغشى الحانة، ولا يمتشق البندقية للتباهي. كان العمل بكدّ من أجل بِبيتا والصبية الثلاثة هوايتَه الوحيدة؛ لكن بما أنهم الآن يريدون سرقته، يعرف كيف يدافع عن نفسه. يا إلهي! لقد كان في هدوء طيبوبته شبيها بشراسة التجار العرب، الذي يسمحون للبدو أن ينتقصوا من مكاسبهم، لكنهم ينقلبون أُسُداً حين تُمسّ رؤوس أموالهم.
وبما أن الليل أزف ولمّا يقرر شيئا، ذهب يستشير المسنّ صاحب الكوخ الملاصق، وهو أشمط لم يعد قادراً إلا على جزّ الأجمات المحاذية للسُبل، لكن يُحكى عنه أنه إبّان فتوته أقبرَ أزيد من شخصين.
استمع له الهرِم وعيناه مثبتتان على دخينة التبغ الثخينة التي تلفّها يداه المرتعشتان المكسوّتان بالقشرة. استحسن رفضه لإطلاق المال. فليسرقوا على الطريق كالرجال، منكشفين، وجهاً لوجه. لقد بلغ السبعين، بيد أنهم لن يفلحوا في مراوغته بتلك الحيل. لِنَرَ؛ هل يملك صِنتو المخالب ليدافع عن ماله وأهله؟
انتقلت عدوى رباطة جأش المُسِنّ إلى صِنتو، فأحس بأنه مستطيعٌ لكل شيء ليدافع عن عيش ذويه.
أخرج المُسِنّ من وراء الباب جوهرة البيت، بوقار كما لو أن الأمر يتعلق بتحفة عتيقة: بندقية بمزلاج تبدو كالمدفع، تحسس أدناها بهيام.
سيتولى شحنها بنفسه، فهو أفضل من يفهم صاحبته. فدبّ الشباب في اليدين المرتعدتين. ها هو البارود! حفنة كاملة. من حبل يقتطع أغلفة الرصاصات. يبدأ بحصة من كريات الرصاص، خمس أو ست؛ يصب بسخاء الرصاص الغليظ، ثم الفولاذ الدقيق، فتخرج في النهاية رصاصة حسنة الصياغة. وإذا لم تنفجر البندقية من ذلك الخليط غير المتجانس، فبلطف الله.
أخبر صِنتو زوجته تلك الليلة أنه سيسهر منتظراً دوره للسقي، فصدقته أسرته، وهجعت باكراً.
عندما خرج، وقد أحكم إغلاق باب الكوخ، رأى على ضوء النجوم المسنَّ المتين منهمكا في وضع المزلاج لصاحبته.
سيلقن صِنتو الدرس الأخير لكيلا يخطئَ الرمية. أن يصوب جيدا نحو فوهة الفرن وأن يبقى هادئاً. وعندما ينحنون بحثا عن كيس النقود في الداخل... إطلاق! أمر في غاية البساطة، بحيث يمكن لولد أن يقوم به.
تمدّد صِنتو، متبعا لنصيحة معلمه، بين أُصُصَي إبرة الراعي في ظل الكوخ. البندقية الثقيلة كانت ترزح داخل سياج القصب مصوّبة بثبات نحو فوهة الفرن. لا يمكن أن تخطئ الرمية. بلزوم اليقظة وضغط الزناد في الوقت المناسب. ووداعا يا فتى! كانت تروق تلك الأشياء للمسنّ؛ لكن له أحفاداً، وعلاوة على ذلك، من الأحسن أن يتدبر المرءُ هذه الأمور بنفسه.
ابتعد المسنّ بحذر، كونَه رجلا ألِف أن يحوم حول حِمى الضيعة، مترقبا عدواً في كل سبيل.
خُيِّل لصِنتو أنه بقي وحده في الحقل، الذي يهبّ عليه النسيم، وألا أحياء من غيره وأولئك الذين سوف يصِلون. ويا ليتهم لا يأتون! كان مدفع البندقية يرن حين يرتعش فوق سوق القصب. ليس بفعل البرد، إنما بالخوف. ماذا سيقول المسّن لو كان هناك؟ كانت قدماه تحاذيان الكوخ، ولما فكر أن وراء ذلك الجدار الطيني تنام بِبيتا والأولاد، دون حماية غير ذراعيه، ولما فكر فيمن يريدون سرقته، أحس الرجل المسكين من جديد أنه سبُع.
اهتز الفضاء، كما لو أن في المدى القصي نطق من عل صوتٌ مترنّم. كانت ضربة جرس الكنيسة. التاسعة. سُمع صرير عربة تدب على طريق بعيد. نبحت الكلاب، ناقلة عدوى عوائها من حظيرة إلى حظيرة، ونقيق الضفادع في الساقية المجاورة كان يقطعه غطس رؤوس بعضها في الماء والفئران التي تقفز من الضفتين خلال القصب.
راح صِنتو يعدّ الساعات التي يعلنها جرس الكنيسة. كان الشيءَ الوحيد الذي يصرف عنه السِّنة والارتخاء اللذان يغمره بهما جماد الانتظار. الحادية عشرة! ألن يأتوا؟ هل هداهم الله؟
سكتت الضفادع بغتة. عبر السبيل كانت تتقدم كتلتان حالكتان بدوتا لصِنتو ككلبين ضخمين. استقامتا: كانا رجلين يتقدمان مقوّسين، زاحفين تقريبا.
-إنهما هنا –غمغم، وكان فكّه يرتعد.
كان الرجلان يتلفّتان صوب كل ناحية، كما لو كانا يخشيان مفاجأة. ذهبا إلى حقل القصب، يفتشانه: ثم اقتربا من باب الكوخ، مصيخين السمع عبر فتحة القفل، وخلال هذه المناورات مرقا مرتين بمحاذاة صِنتو، دون أن يتمكن من التعرف إليهما. كانا متلفّعين ببطانيتين، تطل من تحتهما البندقيتان.
زاد ذلك من جرأة صِنتو. لعلهما اللذان قتلا جَفَرُّو. تعيّن القتل لإنقاذ الحياة.
قصدا الفرن. انحنى أحدهما، واضعا يديه في فمه ومتموضعا في مرمى البندقية. رمية مواتية. لكن، ماذا عن الآخر الذي يبقى طليقا؟
بدأ الخوف يتملّك صِنتو المسكين، وقد أحس في جبهته بعرق بارد. إذا قتل أحدَهما، سيبقى مكشوفا أمام الآخر. وإذا تركهما يمضيان خاليين، سوف ينتقمان منه بإحراق الكوخ.
بيد أن الذي كان مترصِّداً تبرّم من تعثر رفيقه وذهب ليعينه في البحث. شكّل الاثنان كتلة غامقة تسد فم الفرن. تلك هي الفرصة. هيا يا صِنتو، اضغط الزناد!
هز الرعد الضيعة بكاملها، مثيرا زوبعة من الصراخ والنباح. رأى صِنتو قوسا من الشرار، وأحس بحروق في الوجه؛ أفلتت البندقية منه ولوّح بيديه ليوقن أنهما مازالتا كاملتين. أكيد أن الصاحبة قد انصدعت.
لم يلمح شيئا في الفرن؛ لقد لاذا بالفرار، وبينما كان يهم بالهرب بدوره، انفتح باب الكوخ وأطلت بِبيتا بثياب النوم، حاملة قنديلا. لقد أيقظها رعد الطلقة فخرجت يدفعها الخوف، مشفقة على زوجها الذي كان خارج البيت.
بلغ نورُ القنديل المحمَرّ، المتموّجُ في استحياء، فوهة الفرن.
هناك كان رجلان على الأرض، واحدا فوق الآخر، متقاطعَيْن، مختلطين، كجسد واحد، كما لو أن مسمارا خفيا يجمعهما من الخاصرة، يلحمهما بالدم.
لم يخطئ الرمية. كانت إصابة البندقية العتيقة مزدوجة.
ولما أضاء صِنتو وببيتا بفضول مرعوب الجثتين ليريا وجهيهما، تراجعا مندهشين.
لقد كانا العم باتيست، العمدة، ومقدَّمه سيغرو.
بقيت الضيعة بلا سلطة، لكنها بقيت آمنة.
ــــــــــــــــــــــــ
نشرت الترجمة بإذن من المترجم

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا