التخطي إلى المحتوى الرئيسي

قراءة الأدب يمكن أن تجعلنا أفضل

* ألبرتو مانغيل
ترجمة: توفيق البوركي

تُعدّ رواية “قلب” لإدموندو دي أميتشيس، وهو كاتب من القرن التاسع القرن 19 طواه النسيان، من الأعمال الكلاسيكية التي طبعت ذاكرة طفولتي. يحكي أحد فصول الكتاب، والذي كان له بالغ الأثر عليّ، عن صبي من جنوى غادر بلده بحثًا عن والدته التي ذهبت للعمل في الأرجنتين. أتذكر أنني بكيت حينها وتساءلت مع نفسي إن كنت قادرًا على خوض مغامرة خطرة كهذه.

لم أكن أعلم حينها، لكن هذا الكتاب علّمني أبجديات التعاطف مع الغير. هذا الغوص في حياة الآخرين تواصل فيما بعد مع قراءات أكثر تعقيدا على يد شخصيات كجين آير وآنا كارنينا وروبنسون كروزو ودون كيخوطي دي لامانشا وأبطال شارل ديكنز المستضعفين.
هذه الشخصيات ساعدتني –أنا ومجموعة كبيرة من القراء-على فهم معاناة الآخرين بتعمق كبير وكذلك جعل لحظات فرحهم أكثر واقعية.
لا يبدو أنّ للأدب فائدة جليّة، لكن العلم أثبت العكس. فقرّاء الأدب، هذا النشاط الذي يعتبره الكثيرون مجرد تزجية للوقت أو نشاطًا لا طائل من وراءه، يمتلك قيمة اجتماعية لا تقدر بثمن: إنّه يجعل منا أشخاصًا متعاطفين وعلى استعداد كبير للإنصات للآخرين وفهمهم. فالقصص الخيالية تُعلِّمنا أن نسمي همومنا وتُعلِّمنا أيضا كيف نواجه ونتقاسم مشاكلنا اليومية.
هذا الأمر مهم خاصة اليوم، عند نجد أنّ مجموعة من التحديات الملّحة في وقتنا الراهن يجب أن تُحلّ بطريقة جماعية متضامنة: فالكوارث الطبيعية التي فاقمتها التغيرات المناخية، وأزمات الهجرة العالمية، وإعلانات المطالبة بحقوق الأقليات تمّ التطرق إليها ومناقشتها منذ أزيد من خمسة آلاف سنة في عمل أدبي هو ملحمة جلجامش. ففيها حديث عن الدمار الشامل –الطوفان-ومآسي أناس أجبروا على الفرار وفيها أيضا صرخة الضعفاء ضد تجاوزات سلطة الملك جلجامش.
إن الأدب العظيم، بما في ذلك المكتوب منذ آلاف السنين، يحمل في طياته دروسا للقراء في الزمن الحاضر. وربما فالأدب وتلك القدرة اللصيقة به على جعلنا أكثر تعاطفا مع الآخرين، هي التي بإمكانها إنقاذنا من أنفسنا.
في أكتوبر من العام 2013، نشر فريق من الباحثين التابعين للمدرسة الجديدة للبحوث الاجتماعية في نيويورك دراسة في مجلة “علوم” حول خمس تجارب لدراسة العلاقة بين فعل القراءة والتعاطف مع الآخرين. قُسّم المشاركون إلى مجموعات وتسلمت كل مجموعة نصا يختلف عن البقية. كانت النصوص المختارة تنتمي إلى أجناس مختلفة: الخيال الشعبي، الخيال “الجاد” – رواية للويز إردريك وأخرى لدون دي ليلو-، تقارير صحفية ومقالات بحثية. في حين أن المجموعة الخامسة لم تتلق أي نص. وكان المطلوب من الجميع قُرّاء وغير قُرّاء ملء استمارة ستتيح للباحثين الحكم على قدرة ومهارة المشاركين في فهم أفكار ومشاعر الآخرين.
كانت النتائج التي خَلُصوا إليها مهمة. فالمشاركون الذين لم يتسلموا نصوصا شأنهم شأن الذين قرأوا نصوصا صحفية أو وثائقية أو قصصا من الخيال الشعبي كانت نتائجهم مخيّبة. في المقابل، فقراء الخيال “الجاد” أبانوا عن فهم ملحوظ لمشاعر الآخرين وطرق تفكيرهم، وبالتالي عن قدرة كبيرة على التعاطف مع الآخر
إن التقارير الصحفية تخبرنا بما يجري من أحداث، لكن لفهم حقيقة المعاناة التي تحصل تبقى الأعمال الأدبية هي الأكثر نجاعة. فملحمة الأوديسا، وهي قصيدة من القرن 8 قبل الميلاد، سمحت لأجيال عديدة من القراء لقرون طويلة بمعايشة السفر الشاق لمهاجر منذ أن فر من مسقط رأسه إلى حين عودته. هذه التجربة ليست جديدة: فعوليس هنا يتماهى مع آلاف اللاجئين الفارين من الحرب والفقر الذين يقطعون البحر الأبيض المتوسط للوصول إلى شواطئ أوربا، ويتماهى أيضا مع مهاجري أمريكا الوسطى الذين يصلون إلى الحدود مع الولايات المتحدة الأمريكية.
أتذكر عندما قرأت شهادات لمهاجرين غير شرعيين، جُمّعت في دراسة نشرتها جامعة غوادالاخارا، فقد ذهب تفكيري مباشرة إلى الأوديسا. يقول أحد المُستجْوَبِين: ” إنّ الشمال مثل البحر… عندما يسافر المرء بطريقة غير شرعية فإنه يُجر مثل ذيل الحيوان؛ مثل القمامة. لقد تخيلتُ الكيفية التي يجرفُ بها البحر القمامة نحو الشاطئ، وقلت لنفسي: ربما الأمر مثل أن أكون في المحيط وأُجرف إلى الخارج مرة إثر أخرى”.
في كل أسبوع تقوم السلطات الأمريكية بطرد أشخاص لا يحملون أوراقا ثبوتية خارج البلاد، والكثير من هؤلاء عاشوا طيلة حياتهم في الولايات المتحدة. إن هؤلاء المهاجرين يجدون في الآداب الكلاسيكية انعكاسا لهم. في سنة 1615، وبعد مرور ست سنوات على توقيع المرسوم الذي قضى بطرد الموريسكيين الإسبان، نشر ميغيل دي ثرفانتس الجزء الثاني من مغامرات دون كيخوطي. يحكي فيها أن جارا لسانشو يدعى ريكوطي وهو اسم يحمل معنى دالا-اسم آخر مدينة غادرها الموريسكيون باتجاه منفاهم-يعود إلى إسبانيا متنكرا في هيئة حاج، فيخبر سانشو أنه ورفاقه المطرودين لم يلقوا الترحيب اللازم في شمال إفريقيا. يقول بأسف: “حيثما نكون نبكي إسبانيا، على أرضها ولدنا وهي موطننا الطبيعي”.
في كتابه “وداعا للحلم الأمريكي” قدّم نعوم تشومسكي دليلا على أن الفقر في قيمة التعاطف الجمعي في الولايات المتحدة في القرن 21 هو نتيجة لمخطط الغرض من وراءه تقليص السلطات الديمقراطية ومضاعفة أرباح الأثرياء.
في البداية كان الحلم الأمريكي يسعى لتعزيز مفهوم الارتقاء الفردي لكن أيضا الجمعي بحيث أن المواطن يستفيد وهو يقدم يد العون لجيرانه. في المقابل، وفي أواسط القرن الماضي بدأت تتعزز النزعة الفردانية وانتشرت الخطابات السياسية التي تدعم الانعزالية.
حسب البروفسور كريستوفر كروبيني Christopher Krupenye  من جامعة سان أندرو، فالتعاطف والإرادة على مساعدة الغير هما فضيلتان أصليتان في الجنس البشري. ويعتبر الأكاديمي المتخصص في سلوك الرئيسيات أن “من خصائص الكائن البشري المميزة هي أنه كائن خدوم”، ويضيف أنه لولا هذه السخاء الفطري لم نكن لنستطيع البقاء عندما كان أسلافنا يعيشون على القنص وقطف الثمار. ومن المحتمل، يقول كروبيني أنه بعد امتلاك هذه القدرة على الإحساس بالتعاطف طوّر الكائن البشري تدريجيا القواعد التي تسمح لنا الآن بفهم حقوق وواجبات العيش المشترك ومواجهة التهديدات والمخاطر.
إذا كنا في السنوات الأخيرة قد فقدنا هذه الأداة الحيوية لبقائنا. فماذا نحن فاعلون لإنقاذ أنفسنا من العمى تجاه الآخرين؟ وكيف يمكننا إنعاش هذا الإحساس الحيوي بالتعاطف؟
في النصف الأول من القرن التاسع نظم الشاعر السوري الكبير أبو تمام بيتًا من الشعر قد يُفيدنا اليوم:
أو يفْتَرقْ نَسَبٌ يُؤَلف بَيْننا    أدبٌ أقمناهُ مقامَ الوالدِ (1)
الإجابة واحدة نُلفيها في قراءة الأدب.
يتعلم الأطفال اكتشاف العالم من خلال القصص التي تُحكى لهم وتلك التي يقرؤونها، كما فعلت أنا مع دي أميتشيس. وهكذا فإنه ليس من العبث أن نفترض أن البالغين يمكنهم مواصلة هذا التعلم. لذلك، يجب على حُكّامنا ومُشرّعينا قراءة المزيد الأدب: فقد تكون هي بداية الطريق لهم لإقرار تشريعات وتوقيع معاهدات فيها إيثار وتضحية. وربما يجد هؤلاء القادة في شخصيات مارغريت آتوود أو ثرفانتس، مدخلا لفهم أعمق وأفضل لحياة الآخرين؛ حياة المهاجرين واللاجئين والأشخاص الأقل حظا.
فشخصيتا دون كيخوطي الرحيمة وأوفريد الخادمة المطيعة قد تنقذاننا من غواية الانكفاء على الذات.
 ـــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب وناشر أرجنتيني كندي
(1) هذا البيت مُقتبس من هذه القصيدة:
http://www.adab.com/modules.php?name=Sh3er&doWhat=shqas&qid=15741&r=&rc=7 


لقراءة النص الأصلي بالإسبانية (اضغط هنا)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا