قصة: ماريو بنديتي
(الأوروغواي)
ترجمة: توفيق البوركي (المغرب)
استيقظت السّيدة بَالِنْتِينَا
بالما دي أبريو ذات التسعة والأربعين عامًا وهي أرملة منذ ثمانية أعوام، فجأة في
تمام الثّانية فجرًا. بدا لها أنّ الضّجيج قادم من غرفة المعيشة، ودون أنْ تنير
الأضواء، تركت السّرير بقميص النّوم فقط وتوجّهت بخطوات حذرة نحو البهو الفسيح للشّقة
المريحة. عندها أنارت الضّوء وعلى مبعدة ثلاثة أمتار، وقف شابّ يرتدي سروال جينز
ومعطفًا غير مزرّر، وعلى محيّاه علامات الحيرة.
-مرحبًا-قالت-وقد تمكّنت
من التّحدث دون تلعثم ربّما لأنّ عبارة التّحية كانت قصيرة.
-عذرًا يا سيّدتي-قال
الدّخيل-أخبروني أنّك على سفر، وظننت ألاّ أحد هنا.
-اها وما سبب الزّيارة؟
-كان في نيّتي أخذ بعض
الأشياء الصّغيرة.
-وكيف تمكّنت من الدّخول؟
-دخلت من المطبخ. لم
أكن في حاجة لكسر القفل، فأنا حاذق بما يكفي في مثل هذه الأمور.
-هل يمكنني أن أعرف ما
إذا كنت مسلّحًا؟
-لا تُهينيني. أنا
أتحرّى الأمر دائمًا قبل أيّة عمليّة. هذه المرّة لم أستعلم جيّدًا وأعترف بذلك.
لا أتدخّل إلاّ عندما أكون متيقّنًا من أنّني لن أصادف أحدًا، وما دام الأمر كذلك،
فما حاجتي للسّلاح؟
-وما هي الأشياء التي
تثير اهتمامك؟ أعتقد بأنّك تعلم أنّه ليس من السّهل في هذا الوقت غير المناسب أن
ترحل ومعك تلفاز بحجم 22 بوصة أو فرن ميكروويف أو قطعة خزفية من ماركة يَادرو.
-تملكين كلّ هذه
الأشياء؟ هنيئًا لك. لكنّي في جولات منتصف اللّيل هاته لا أهتمّ بالمسروقات التي
يصعب نقلها. أُفضّل مجوهرات، أموال عينية (تكون بالدّولار- إن أمكن- أو ماركات في
باقي الأحوال) أو بعض التّحف الصّغيرة التي تسع جيب المعطف. أشياء ذات قيمة وذوق
رفيع، قليلة الخطورة ويسهل بيعها.
-منذ متى وأنت تزاول
هذه المهنة المربحة وذات المستقبل المشرق؟
-منذ عامين وأربعة
أشهر.
-يا للدّقة.
-ما حصل هو أن أول
عمليّة نفّذتها كانت في اليوم الموالي لعيد ميلادي الرابع والثلاثون.
-وما الذي دفعك لتسلك
هذا الطّريق؟
-انظري يا سيّدتي، أنا
على وشك أن أصير مهندسًا معماريًّا. في الحقيقة تنقصني لذلك ثلاث مواد دراسيّة
وبحث التّخرج. لكنّني كنت أتضوّر جوعًا، وربما لا تعلمين أنّ فرص العمل هنا قليلة
جدًّا. من جهة أخرى، ليس لي أبوان ولا أعمام، ولا حتى عرّاب، ليوفّروا لي متطلّبات
الحياة. وكما يقولون في إسبانيا: أنا وحيد أكثر من الوحدة نفسها. وكما ترين فمنذ
أنْ شرعت في جولاتي اللّيليّة استطعت أنْ أعيش وتمكّنت من الادّخار أيضًا. ومتى
جمعت ما يكفي من المال، أعتقد أنّني سأشتري سيّارة أجرة. أعرف ثلاثة مهندسين في
مثل وضعي فضّلوا شراء سيّارة أجرة وسارت الأمور معهم بشكل جيّد.
- في هذه الحالة هل
ستتخلّى عن هذه الصّفقات غير المشروعة؟
-لا أعتقد. سيّارة
الأجرة ستكون عملاً إضافيًّا فقط.
فهمت دُونيا بالنتينا،
أرملة أبريو، أنّ لحظة الابتسام حانت. وابتسمت.
-ما رأيك لو أجلنا
اختيار الأشياء التي ستكون ضمن مسروقاتك لهذه اللّيلة حتى وقت لاحق، ولنتناول الآن بعض الشّراب؟
تطلّب الأمر منه بضع
دقائق للتّأقلم مع المفاجأة الجديدة، لكنه وافق في آخر الأمر.
-حسنًا، أرى أيتّها
السّيدة أنّك تُديرين المواقف غير المتوقّعة بهدوء ورباطة جأش.
-وماذا تريدني أنْ
أفعل؟ أنْ أرتجف؟
-إطلاقًا. الوضع هكذا
أفضل.
توجّهت السّيدة نحو
بار صغير، مصنوع من خشب الماهوني، وأخرجت قدحين.
-أي ويسكي تُفضّل؟
إسكتلندي، إيرلندي أو أمريكي؟
-إيرلندي طبعًا.
-أنا أيضًا. بالثّلج
أو بدونه؟
بمجرّد أنْ انتهت من
صبّ نفس الكمّية من الشّراب في الكأسين الكرستاليّين الزّرقاوين، رفع الدّخيل
كأسه.
-فلنشرب النّخب يا سيّدتي.
-من أجل ماذا أو من
أجل من؟
-نخب تفهّم البرجوازيّة
الوطنيّة.
-في صحّتك، ولنشرب أيضًا
نخب خيبة هيئة المهندسين المعماريّين.
عندما كانا على وشك
شرب الكأس الثّانية، رمقت دُونيا بالينتينا الرّجل بنظرة فيها قليل من الاحتراس
وقليل آخر من الاشتهاء. وفكّرت أنّ اللّحظة مواتيّة لتستعيد ابتسامتها.
واستعادتها.
-والآن قل لي ألا تهتمّ
أنْ تضيف قميص نومي إلى غنيمتك لهذه اللّيلة؟
-قميص نومك؟
-نعم، وأنبّهك أنّني
لا أملك شيئًا آخر تحته. وآذن لك أن تنزعه عنّي.
-لكن.
-ربّما هو جسد هرم
بالنّسبة لك؟
-كلاّ يا سيّدتي.
أعترف أنك تتمتّعين بمظهر جذّاب.
-تريد أن تقول: جذّاب
بالنّسبة لعمري؟
-هو هكذا، جذّاب بكلّ
بساطة.
-ترمّلت قبل ثماني
سنوات ومنذ ذلك الحين لم أنم مع أحد. ما رأيك في هذا الزّهد أيها اللّص؟
-سيّدتي، لا أحتاج أن
أقول لك بأنّني تحت إمرتك.
-من فضلك، لا تقلْ لي
سيّدتي وارفع الكُلفة بيننا.
-هل أنزع عنك القميص؟
أمام إشارة الموافقة
التي أبدتها المرأة، وقبل أنْ يبادر نحو القميص المعلوم، نزع الرجل معطفه وسروال
الجينز وباقي ملابسه المتواضعة لكنّها كانت نظيفة. في ظلّ هذا الوضع لم تصبر المرأة
وجلست تنتظره عارية.
على السرير المزدوج
أثبت اللّص لنفسه أنّه لم يكن خبيرًا في اقتراف السّرقات اللّيليّة بل إنّه بارع
أيضًا في أمور ليليّة أخرى. من جانبها، برهنت دونيا بالنتينا أنّها، ورغم صيامها
الطويل منذ ترمّلها، لم تفقد ذاكرتها الشّهوانيّة.
ومثلما حصل مع الويسكي
فقد كرّرا النّخب في الجنس أيضًا. في الأخير قبلّته بالتذاذ سخيّ، لكن بعد ذلك جاء
الإعلان:
-فلندخل في صلب
الموضوع. عليك أنْ ترحل قبل شروق الشّمس. فالأسباب واضحة، فهناك البواب ومورِّدو
السّلع وغيرهم. هيّا، ارتد ملابسك، وسنرى فيما بعد الأشياء التي يمكنك أخذها.
بينما كان يرتدي ملابسه، عادت هي إلى ارتداء قميص نومها رغم العرض الذي قدمته
بشأنه سلفًا.
بعد ذلك فتحت دولابًا،
كانت تحتفظ في داخله بخزْنة أخرجت منها رزمًا من الدّولارات وأشياء أخرى.
-كيف الحال؟ هل هناك
شيء تودّ أخذه؟
وضعت على طاولة، من
خشب البلّوط، مجموعة مجوهرات ذهبية لامعة ومصقولة، وساعة سويسرية (كانت لزوجي،
إنها رولكس حقيقيّة) وعلبة عاجيّة وأشياء أخرى ذات قيمة.
- هناك أيضا هذا المسدّس
التّحفة. يقولون إنّه كان لجنرال نازي. هل يهمّك؟
عندما رفع الرّجل نظره
عن المجوهرات التي كان يتفحّصها، ضغطت على الزناد. أصابت الطلقة رأسه وانهار بجانب
السّرير المزدوج. جمعت المرأة كلّ الأشياء المعروضة وأعادتها إلى الخزْنة ما عدا
المسدّس.
بعد أن تأكّدت من أنّ
الرّجل قد فارق الحياة، تخطّت جثّته بحذر، ووضعت المسدّس في يده اليمنى لتبقى آثار
بصماته عليه، ثمّ استعادته ووضعته فوق السّرير. ذهبت بعدها إلى الحمّام وغسلت
وجهها ويديها مرّات ومرّات، واستعملت المرحاض أيضًا.
حينها عادت إلى غرفة
المعيشة وأرجعت قنّينة الويسكي إلى مكانها، وأخذت الكأسين الكرستاليّين الطويلين
إلى المطبخ حيث غسلتهما ونشّفتهما وأعادتهما إلى مكانهما. ثم رفعت سمّاعة الهاتف وضغطت
رقمًا.
-الشّرطة؟ معكم
السّيدة بالنتينا بالما، أرملة أبريو، القاطنة في الشّارع الفلاني، رقم كذا وكذا،
شقّة 8 ب. أطلب منكم الحضور إلى هنا عاجلاً، لقد اقتحم لصّ بيتي، ولا أدري من أين
ولا كيف. ولم يكتفي بالسّرقة بل حاول اغتصابي. وكان يهدّدني بمسدّس كان معه، لكن
فجأة وبسبب ثقته الزّائدة في النّفس، انتزعتُ السّلاح منه دون أن أدري من أين لي
بكلّ تلك القوّة، ودون تردّد أطلقت النّار. وأخالني أجهزت عليه، دفاعًا عن النّفس
طبعًا. فلتأتوا بسرعة لأنّ الهلع الذي عشته كان وقعه رهيبًا، وأعترف لكم أنّني على
وشك أنْ يُغمى عليّ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النص
مأخوذ من المجموعة القصصية:
نبذة عن الكاتب:
Mario Benedetti: شاعر وروائيّ
وقاص وناقد ، يعتبر أحد أهمّ الأصوات الأدبية في الأورغواي
في النّصف الثّاني من القرن الماضي إلى جانب خوان كارلوس أُونيتي.
نال سنة 2001 جائزة خوصّي مارتي الإبيروأميركية
كاعتراف وتقدير بمنجزه الأدبي.
ولد في الرابع عشر من شهر يناير عام 1920 في بلدة
باسّو دي لوس تورّيس في الأورغواي لعائلة متواضعة. اتّسمت حياته بالكفاح المتواصل من
أجل تحصيل لقمة العيش حيث عمل في عدة وظائف عامّة، ثمّ انصرف بعدها إلى التّرجمة والصِّحافة
فعمل محرّراً في مجلة "مارشا" ما بين عامي 1945 و1975، ثم شغل منصب مدير
مركز الأبحاث الأدبيّة في "دار أمريكا" في هافانا، ومدير قسم الأدب الأمريكي
اللاتيني في كلية الآداب في العاصمة مونتفيديو، وفي أعقاب الانقلاب
العسكري استقال من منصبه في الجامعة ولجأ إلى الأرجنتين وبعدها إلى البيرو، ثم كوبا، ثم إسبانيا، وما لبث أن عاد إلى
وطنه مع عودة النظام الدستوري والديمقراطي، وعودة الحريات الفردية.
خلّف أعمالاً شهيرة مثل "الهدنة" و
"بقايا القهوة" و"الموت ومفاجآت أخرى" و"صندوق بريد الزمن
" التي اخترنا منها هذا النّص (من الصفحة
42 إلى الصفحة 46)،
ثمّ "بيدرو والقبطان" و "إشكالية نهاية القرن" وغيرها... تعالج
في معظمها، الأوضاع الاجتماعية والسّياسية التي شهدتها الأورغواي وباقي دول أمريكا
الجنوبية. دشن لأدب واقعي يفتقر إلى التّجريب فتطرّق لمشكلة البيروقراطية السّياسية
التي كان ينتمي إليها دافعه في ذلك روح البرجوازي الصغير التي كانت تتلبّسه.
توفي سنة 2009 بالعاصمة مونتفيديو. (المترجم)
تعليقات
إرسال تعليق