التخطي إلى المحتوى الرئيسي

أدباء زمان (روبرتو بولانيو في بلانيس 1996-1999)

Enrique Vila-Matas
إنريكي بيلا ماتاس
ترجمة: شادي روحانا
«هكذا، يا بلاش / القصة وما فيها هي أن تعرف كيف تقوم عن الحبال»
— ماريو سانتياغو
كتب أغوستو مونتِرّوسو وقال: عاجلًا أم آجلًا، إن مصائر الأديب اللاتينوأمريكي المُحتملة هي ثلاثة: إمّا المنفى، أو الحبس، أو القبر.
عرفتُ روبرتو بولانيو في أواخر مرحلة الحبس، أي في أواخر الحقبة التي كان لا يزال فيها كاتبًا مجهولًا، منعزلًا، ومتوحدًا.
عرفته في يوم 21 نوفمبر من العام 1996، في مدينة بلانيس، في حانة نوفو. إن نظافة المحل وديكوره، والذي يوحيك بأنك في مزرعة ألبان، يصُنِّفان الحانة على أنّها «حظيرة كاتالونية». لكن، الأشخاص مثلي سيجدون مستوى نظافة هذا النوع من المحلات بمستوى فظاعتها. ففي تلك الأيام، كنت لا أزال أفضّل السواد الغائم والمُستشري في الحانات الليلية الواسعة.

دخلنا النوفو أنا وباولا دي بارما وجلسنا. طلبنا العصير. بعدها مباشرة دخل روبرتو بولانيو. أتذكّر ما حدث كما لو يحدث الآن: باولا، والتي كانت تعمل في مدرسة ثانوية في بلانيس، وانتهت للتو من قراءة رواية «نجم بعيد»  (كانت دار اناغراما قد نشرتها مؤخرًا)، سألت بولانيو إذا كان هو، بالفعل، بولانيو. نعم، قال، هذا أنا. وأضاف: وهذا الذي بجنبك هو فيلا–ماتاس.
—يا ملعون! —كان التعبير الذي سُمع دويه فيما بعد بقليل.
جاء التعبير على لسان بولانيو، والحديث الذي دخلنا فيه مباشرة امتد بنا زمن تلك «الضحكة الطويلة، ضحكة كل تلك السنوات»، كما يقول فوغويل.
أتذكّر كيف كان الحديث بيني وبين بولانيو يجري وكأننا أصدقاء منذ المهد. كان يسكن، مع زوجته كارولينا لوبيس وابنهما لاوتارو، في العمارة رقم 17 من الكارِّير دي يورو (أي شارع الببغاء)، وكان يملك استوديو متواضعًا يعمل فيه في العمارة رقم 21 من الشارع نفسه. أمّا على رقم 19 فكان يقع المسلخ الذي منه استوحى قصيدة «وسط الذباب» التي لا تُنسى: «يا شعراء طروادة / كل ما هو لكم لقد تلاشى / لم يعد له أي وجود / لا معابد ولا بساتين ولا الشِعر / إذًا فأنتم الطلقاء / يا شعراء طروادة الطيّبين».
كان يعيش بدون هاتف، هو ورقم صندوقه البريديّ رقم 441، والذي إليه كانت تصل نتائج الجوائز الأدبية المحليّة التي كان يرشّح نفسه إليها. جاء الطرد الأخير من مدينة سان سيباستيان، عام 1996، معلنًا فوز قصته «سينسيني» في جائزتها الأدبية. إن قصّة «سينسيني» هي تحفة أدبية بحق، ولكن، للأمانة، كان مقدار الجائزة بسيطًا جدًا. لكن السعادة التي تلقيا فيها كارولينا وروبرتو الخبر، هما اللذان كانا يعتاشان على معاش كارولينا من البلديّة، كانت تليق بجائزة نوبل ولا بجائزة محليّة.
إن دفتر المذكرات الذي كنت أحتفظتُ به، والبعيد أشد البعد عن فنون البلاغة (كان عبارة عن ملاحظات قصيرة وتدوينات ومعلومات ناشفة)، يُسعفني في مهمّة استحضار أسماء المحلات التي كنّا نلتقي بها خلال السنوات المجنونة التي لحقت ذلك اللقاء: ديبرا، باكشيو، حانة ديل بويرتو، حانة ديل كازينو، كيكو، إل ميخيكانيتو، قاعة سينما أمبل، كان فلوريس، حانة سينترو، كعك بلانتِيِّس، لا غران مورايّا، تيرّيسانس، لِأنتيك. كنّا نجتمع في المنازل التي كنّا نعيش فيها وكذلك في هذه المحلّات التي باتت مسرحًا لمحادثاتنا، مشاحناتنا، شغافنا، شراراتنا الابداعية، مناقشات لا نهاية لها، الضحك، والكلمات التي فَلِتت منّا كالدخّان: «أن تدخّن بعينين ناعستين وتلقي قصائد شعراء بروفنس / في عزلة ذهاب الحدود وإيابها. / لعلّها من دلالات الهزيمة، هذا صحيح، / وما أدراك ما البحر وما الحانات …» (من كتاب «الجامعة الجهولة» لبولانيو).
برأيي، وربّما فيه أتعارض مع الرأي السائد، إن السكن في بلانيس، وقضاء زمن مرّ من الصمت فيها، والعيش في الهزيمة (أي عيش المحنة، لكن مع البحر والحانات)،  كان ضروريًّا لبولانيو. كلا، لا أقولها من باب التهكّم، بل أقولها وأنا أستحضر حكاية الفلّاح الفُلانيّ الذي عاش حياته مرتاحًا حتى غلط وقرّر أن عليه أن يرى باريس. عندما فعل ذلك، ابتلعته المدينة. لا أدّعي أن حالة بولانيو هي شبيهة بحالة ذلك الفلّاح بالضبط، لكنّي في كل مرّة أستحضر فيها بولانيو، كما أفعل الآن، لا أقدر على تجاهل حقيقة وجود حقبة سعيدة في حياة بعض الفنانين، أيام مجيدة عاشوها بدون مجد. فَفيها لم يسمعوا بعد لا بالوسط الأدبيّ ذات الحجم المتوسّط، ولا بالحسد المستشري فيه، ولا بالغرور، ولا بالسّوق: أيام كان فيها هؤلاء الفنانون غامضين وغير اجتماعيين، وكانوا، على الرّغم من تحسّراتهم على الحزن والكآبة المحيطَيْن بهم، كانوا يعيشون ويتنفّسون بصدق، في كنف ملكوت الفنّ.
تُذكّرني عزلة بولانيو خلال سنواته في بلانيس بتلك الكتب التي يحدّثنا عنها إلياس كانيتي في كتابه «ضواحي البشرية»، كتب تكون في متناول أيدينا على مدى سنين طويلة ولا نقرأها، كتب لا نتخلى عنها أبدًا وتتنقّل معنا من مدينة إلى أخرى، من دولة إلى أخرى. دائمًا نجد لها مكان في الحقيبة، بالرغم من قلة سعتها. قد نقلّب صفحاتها بين الحين والآخر عند انتشالها من الحقيبة، لكنّا نواظب على تجنّب قراءتها، حتى ولو جملة واحدة منها.
بعدها، مع مرور السنين، تأتي تلك اللحظة التي فيها، بغتة، نجد أنفسنا واقعين تحت ضغط تمارسه علينا يد إلهية؛ نجد أنفسنا غير قادرين على القيام بأي شيء، ما عدا أخذ أحد هذه الكتب بين أيدينا وقراءته بدفعة واحدة من أوّله إلى آخره. الشغل الذي يشتغله ذلك الكتاب علينا هو كالوحي الإلهي. حينها نفهم، تمامًا، لماذا اعتنينا فيه طوال هذا الزمن. كُتِب عليه أن يعيش بجوارنا، والسفر، واحتلال مساحة ما، وأن يُشغل حيّزًا ووزنًا. أمّا الآن فقد أحرز غايته من السفر، مُكشفًا لنا عن سرّه، مشعًا بنوره على كل هذه السنوات التي عاش فيها بجوارنا، بصمت. 
كهذا النوع من الكُتب، هكذا كان بولانيو. ليس لدي شكّ بأنه لو لم يعش كل ذلك الوقت بصمت، لكان لم يقل كل ما قاله فيما بعد.  «يُفترض أنها كانت الفترة الزمنية اللازمة لتراكم كل الطاقات الجسيمة التي انفجرت عام 1994»، كتب إغناسيو إتشيفيريّا في  «بولانيو متعدّي المكان». وإلى جانب هذه الطاقات الجسيمة والمُتراكمة، كانت هناك السعادة، السعادة بأن تكون لا أحد، بأن تكون لا أحد يكتب. أحيانًا، بالنسبة للأدباء، أرض الصمت هي جنّة عدن.
جاء بولانيو إلى بلانيس بصحبة كارولينا في صيف عام 1985 ليعمل في المتجر الذي فتحته والدتها في شارع كولوم رقم 28، والذي كان يعتمد على بيع الحلي للسيّاح. خلال الأشهر الأولى، قرّر بولانيو أن يقوم بدور رجل التحرّي، باحثًا، في السرّ، عن آثار البيخوأبارتي، أي شخصيّة رواية خوان مارسيه التي تتجوّل، من على صفحات «الأماسي الأخيرة مع تيريسا»، بين شوارع بلانيس على درّاجة دوكاتي. «خلال أوقات الفراغ من عملي في المتجر كنت أدخل إلى حانات بلانيس لأشرب البيرا وأتحدّث مع الناس. فكما تعلمون، المشي يُرهق. هكذا كانت حياتي في بلانيس: بينما لم أعثر على منزل خوسيه مارسيه، عثرتُ على أصدقاء»، استذكر بولانيو في خطاب له في بلانيس.
وهولاء الأصدقاء كانوا عبارة عن صيّادي السمك، النوادل، والشباب مدمني المخدرات، أي كل من حُكم عليه بالأعدام مسبقًا. سويًّا، إن هؤلاء يشكّلون مدرسة الحياة الشهيرة. ليس لدي شك بأن مرحلة الغفليّة، العزلة، كانت قاسية على بولانيو. لكنّها كانت هديّة من عند الله. صحيح أنّه خلال هذه الفترة لم ينتبه إلى بولانيو أحد من المنتسبين إلى الوسط الأدبي ذات الحجم المتوسّط، لكن الاستغفال هو الذي سهّل له درب الكتابة الذي وهب حياته كلّها من أجله. أكثر من ذلك، إني مقتنع بأن ثقل قساوة تلك الأيام، التي كان فيها منسيًا وكبيرًا، هو الذي صاغ طابعه الشخصيّ واسلوبه المؤثِر، والمرّ أيضًا، لأسباب مفهومة، واللذيْن نجدهما في كامل كِتاباته.
من الصعب على المرء أن يمرّ بلحظات كئيبة، لا أحد ينكر ذلك. لكن، بالنسبة للفنّانين، فالحياة المنعزلة والمضطربة هي التي تعلّمهم درسًا موجعًا، بل محفزًا للغاية، وحتى مفيدًا، عندما يعبرون حلكة الازدراء واللا مبالاة ويطلّون على العالم في وضح النهار. في لحظة العبور هذه يصدمون كل أولئك الذين تجاهلوهم… يطلّون على العالم مدجّجين بالسلاح، على استعداد لمواجهة أي شيء، متمرّسين وذو خبرة، بعد سنوات من العزلة والسعادة. إنه ساموراي في بلانيس. هنا أتذكّر ذلك الحكيم من مدريد وحكمته الصادقة والدّقيقة: «إن طبع الإنسان، أيّ إنسان، آخذ بالتكوّن خلال أيام الآحاد بعد الظهر».
تعرّفت على بولانيو ساعة كان يخرج من حقبة أيّام الآحاد الأبدية التي فيها كان يصيغ طبعه المتوحّش. تعرّفت عليه في أواخر ذلك العام المُدهش، الذي فيه حدثت له ولعائلته أمور قلبت حياتهم رأسًا على عقب: فَفي مطلعه نشرت دار سييس بارّال «أدباء النازية في القارة الأمريكية»، وفي آخره صدرت «نجم بعيد» عن دار أناغراما.
كان بولانيو، وعلينا أن نقولها بلكنة برازيلية، كان maravilhado، مسحورًا. قلّما كان مزاجه يُعكر أصلًا، وفي ذلك العام، أقلّ وأقلّ. الذاكرة التي أحتفظُ بها من ذلك اليوم الذي التقيته صدفة في حانة نوفو، والتي تطغي على كل الذكريات الأخرى، هي كيف انتابني شعور، أو بالأحرى كيف استشعرت، وهذا بعد تبادل بعض الكلمات معه فقط، بأني في حضرة أديب حقيقي. على القارئ أن يعي أنّ ما أتكلّم عنه نادرًا ما يحصل في أيّامنا: «إن الشِعر (أي الشِعر الحقيقيّ)، هو كالتالي: باعتباره نبوّة، يُطلق نفسه في الهواء مثل الزلزال. كما نعلم، هناك حيوانات تحظى بقدرات خاصة، هدفها توقّع حدوث الزلزال». إنه الشعور بأنك في حضرة تشيليّ لا يبدو وكأنه فعلًا من تشيلي، في حضرة شخص يطابق الصورة الرومانسية التي طالما سعيتُ إليها في حياتي الواقعية عقدين من الزمن، أي صورة الأديب كيف ينبغي له أن يكون أديبًا. سبق واقتبس غونسالو مايير مقالة لفابيان كاساس، يتذكّر فيها الثاني كيف كان بولانيو يتحسّر على افتقار عالمنا اليوم من «أدباء زمان، أولئك الذين كانوا أكثر من أدباء، بل كانوا، مثل كورتازار، كانوا أيضًا معلِّمين، مثالًا للعيش يُحتذى به، منارات جبّارة كان بولانيو وأصدقاؤه يسعون إلى أن يكونوا مثلهم».
لم أعتبر خوليو كورتازار منارة أبدًا في حياتي، لكني أفهم الفكرة التي يتكلّم عنها كاساس. في الحقيقة، لا أعتقد أن ذاكرتي ستخونني إذا حكيت لكم كيف، في ذلك اليوم في النوفو، وجدت في بولانيو ناسكًا مجنونًا، أو أحد «أدباء زمان». حدث ذلك بسرعة. وجدت فيه شخصًا ينتمي إلى فصيل من البشر ظنيت أنّه لم يعد له وجود، إذ كنت أعتقدهم ينتمون إلى عالم كنتُ ربّما لمحته في أيام شبابي، لكنّه ضاع إلى الأبد. رأيتُ فيه ذلك الصنف من الأدباء الذين لا ينسون أبدًا أن الأدب، قبل كل شيء، هو مهنة خطيرة. رأيتُ فيه إنسانًا شجاعًا لا يتهادن، ولو قيد أنملة، مع البذاءة السائدة، مُبديًا أصالة متينة تربط بين الحياة والأدب بعفوية مُطلقة. إنه أحد الناجين من سلالة كائنات تعرّضت للانقراض، وهذا يجعل وجوده أمرًا لا يُصدّق. إنه من ذلك النوع من الأدباء الذين يعجبوك لأنهم ينتمون، بكل فخر، إلى طبقة بشريّة تتميّز بسلوكها المُضجّ، المهووس، الجنونيّ، والمضطرب، وأقولها حارصًا على سلامة القصد: إنه أحد هؤلاء المستعصيين، المستعصيين بشدّة، لأنهم يدركون أن كل شيء باطل وأن كل شيء انتهى. يدركون أننا، كبشر، وصلنا إلى نهاية المطاف في كل شيء (برأيي، فقط حين يصل المرء إلى القدرة على قياس حجم بطالة الأشياء ونهايتها، فقط حينها يتحوّل الاستعصاء إلى عاملٍ مساعدٍ يدفع بالمرء نحو السير بشكل دائري داخل زنزانته. هكذا، فقط، يواظب على ألّا يخسر لحظته الوحيدة والقصيرة، وهي بلحظة موجودة حقيقةً، والتي من شأنها أن تمنحه فرصة الخلاص). إنه أحد فاقدي الأمل العِظام، حجم اليأس عنده أعظم من حجم يأس تلك الثورة التي حلمنا بها كلّنا. فبالتالي، إن بولانيو كان أحد الورثاء غير المباشرين لجيلٍ غابرٍ من المصابين بالمسنتثروبية المُزمنة.
إن هؤلاء المُزمنين عايشوا عصرًا كان أهل الأدب فيه كالآلهة، يسكنون الجبال كرهبان متنسكين، او كأرستقراطيين شاردي الذهن. كانوا يكتبون، حينها، من اجل هدف واحد ووحيد، وهو مخاطبة الموتى. لم يسمعوا بشيء يُدعى «السوق» من قبل. كانوا غامضين، يتنفّسون في كنف ملكوت الفنّ. أجل، إن«أدباء زمان» هم أولياء عهد جيل غابرٍ من أناس غامضين ورهبان متنسّكين مصابين بالمسنتثروبية وباليأس. إنهم كالأشخاص الأكثر إرابة، الذين تخشى مصادفتهم في الأزقة الأكثر ظلمة. وهم أيضًا، وأقولها لكي نضحك قليلًا يموجب كل ما ضحكناه في تلك الأيام، هم لا يمتون بأيّة صلة بأولئك الأدباء الرماديّين والمحترفين الذين بدأوا يتكاثرون تحت تصنيف ما كان يُسمى بـ«السردية الإسبانية الجديدة». ما يبحث عنه «أدباء زمان» هو أسلوب شخصي جدًا للتعبير، وهم لا يغفلون أن هذا الاسلوب قد لا يزال يحمل في طيّاته، وهذا بعد وصول النثر القديم والكبير إلى النهاية ولقي الأدب حتفه الحتمي، يحمل مسلكًا قد يكون المسلك الأخير. أليس كذلك؟ أم، باعتبارك، يا محترم، لم يعد أمامنا حتى مسلك أخير نسلكه؟ أتعتقد أنه لم يعد أمامنا أي طريق بوسعنا أن نسلكها بعد؟ إذا كنت تعتقد ذلك فعلًا، دعني أذكّرك بجملة، جملة واحدة فقط، ويا لها من جملة، وردت في قصّة « مكالمات تلفونية»:
«إن ((ب)) أيضًا موافق، وهو على يقين بأنه مسدود هذا الزقاق».
أن أتعرّف على بولانيو في العام 1996 (والذي كنت فيه، على المستوى الأدبي، ضائعًا) كان كالعودة إلى الوراء. ذكّرني بأنه لا يوجد تناقض بين الحياة والأدب بالرغم من حملة التنكّر الضخمة التي قادها، بإبتساماتهم البائسة، الأدباء الرماديين والمحترفين ضد جمع الحياة مع الأدب. لقد أعادني بولانيو إلى حدسي القديم في السنوات التي بدأت فيها الكتابة، والذي كان يرشدني على أنه لا خطأ ولا خطيئة عند جمع الحياة مع الأدب، وعلى أن لعملية الجمع هذه أن تحدث بعفويّة مُذهلة.
وجدتني، إذًا، مع بولانيو. نتمشى أنا وهو في الأماسي بجوار البحر. كنت أتسائل، حينها، هل الأدب كالدّم، يجري في عروق هذا الصديق؟ إن إعلان المبادئ التالي، وهو الأكثر شهرة من بين كل الإعلانات التي كتبها بولانيو، لا يزال إلى يومنا هذا يحثّني على الإقدام بروح متوحّشة: «إن الأدب، من جهة، والقتال الذي يخوضه الساموراي اليابانيّ، من جهة أخرى، يتشابهان إلى حد كبير. لكن، الساموراي لا يقاتل أبدًا سامورايًا آخر، بل يعارك وحشًا عملاقًا. عادة ما يعرف الساموراي مسبقًا حتمية هزيمته. أن تملك الشجاعة، إذًا، أن تكون على علمٍ مسبق بحتمية الهزيمة، أن تخرج إلى القتال: هذا هو الأدب بعينه».
لاعلان بيان من هذا النوع، الصخريّ والمؤثِر في آن، على الكاتب أن يملك مسبقًا فكرة طافحة بالشراسة والشغف حول ماهية الأدب. إن هذه القناعة كانت، كما قال رودريغو فريسان، مُعدية. تنتقل من مرء الى آخر بشكل يكاد أن يكون فوريًا، خالقة لنظرية رومانسية حول النشاط الشعريّ وإمكانية تطبيقه، وكأنها المدينة الفاضلة بين أيدينا… في الحقيقة، أن تكون بصحبة بولانيو على سطح حانة أمام البحر كان يعني أن تكون بصحبة أحد «أدباء زمان»، يعني أن تكون في حضرة شاعر، أن تعيش في كنف تلك المدينة الفاضلة القابلة للحياة.
ها أنا أضع دفتر مذكّراتي امام أعيني وأقرأه، أتصفّحه. في الأمس، أدركت أهميّة تدوين كل هذا الكمّ من الملاحظات التي بدت عديمة الأهميّة، فكنت نسيتها لو لم أسجلّها منذ 1985. وأنا أفتّش عمّا كتبته حول يوم 21 نوفمبر من العام 1996، وجدت هذه الملاحظة القصيرة، والتي بجوهرها عميقة:
«بولانيو».
وأنا أقلّب دفتر مذكّراتي اكتشفت أيضًا أنّي في يوم 25 نوفمبر، أي أربعة أيام منذ لقائنا في النوفو، ذهبت إلى برشلونة، إلى فندق كونديس دِي بارشلونا، لأحضر مؤتمرًا صحفيًّا حول رواية «نجم بعيد». تفاجأت؛ لقد نسيت قرب هذين الحدثين إلى بعضهما البعض، أي صدفة يوم 21 ومؤتمر يوم 25. أما ذاكرتي عن ذلك اللقاء الصحفي فهي كالتالي: بينما كان خورخي هيرالدي، صاحب دار نشر أناغراما، يقدّم كاتبه الجديد، لم أقدر على أن أحيد نظري، في ذهني، عن الجملة تلك، المأخوذة عن فوكنر، والتي افتتح بها بولانيو روايته القصيرة:
«ما هي النجمة التي تقع من دون أن ينظر إليها احد؟».
كان ذلك في أواخر العام 1996 الذي فيه، وأخيرًا، بدأ بولانيو يلفت الأنظار. بدأت الناس تترقّبه وتلاحظ بأنه موجود. من بين شتّى الاحتمالات لقراءة كلمات فوكنر، إحداها تعتمد على قراءتها في ضوء هذه الأجواء الجديدة. كنت أنظر نحو بولانيو، أؤكد لنفسي، مرارًا وتكرارًا، وكأني ألعب لعبة صامتة، بأنه لا يوجد بتاتًا أي وجه شبه بين بولانيو وذلك الطيّار الشرير من رواية «نجم بعيد»، ذلك الرجل الذي وصفه الراوي بأنه قاسيٌ للغاية، وهي ليست بصفة غريبة على اللاتينوأمريكيّين عند عبورهم جيل الأربعين. يقول الرواي: «يا لها من قساوة. إنها تختلف أشد الاختلاف عن قساوة الأوروبيين أو أهل أمريكا الشمالية. إنها قساوة حزينة، مستعصية على الشفاء».
احتوت قساوة بولانيو المُحتملة، في ذلك اليوم الذي فيه عُقد المؤتمر الصحفي، على القليل من الحزن. مع ذلك، فهي تعطينا الفرصة لنحدّق فيها ولاعتبارها نوعًا من السعادة المحتملة. ربّما السبب من وراء كل هذا هو أن كل شيء بات جديدًا بالنسبة لبولانيو، وربّما لأن كل شيء فجأة تحوّل إلى أمر مسلّي وخطير مقارنة مع الماضي. لقد بدأ محرّك الغفلية والمشحون بكم هائل من الطاقات على مدار الأيام المجنونة، بدأ، أقول، دون سابق انذار، يشتغل. ففي ذلك اليوم وجدنا أنفسنا امام نشوة معتدلة: «إذًا، كيف يمكننا أن نعرِّف الكتابة الجيّدة؟ إنها نفسها منذ القدم، إيّاها: هي أن تعرف كيف تضع رأسك في الظلام، أن تعرف كيف تقفز نحو الهاوية، أن تدرك أن مهنة الأدب هي مهنة خطرة».
حوالي الدقيقة الأربعين، أي بعد ان ارتاخ كل شيء في الهواء، أطلق بولانيو لنفسه العنان في الإجابة على سؤال حول وقع تشيلي المتواضع على الساحة العالمية. فجأة، أخذ يسترسل في مونولوغ طويل ومدهش، خارج المكان والزمان، حول قوة انضباط الجيش التشيليّ وقدرته الحربية على الصورة البريطانيّة. أعتقد ان بولانيو، في الدقيقة الأربعين، استطاع أن يوقف الوقت. أتذكر كيف، في لحظة معيّنة، أغمضت عيني، وكيف انتابني شعور غريب. شعرت حينها وكأن كلاماته كانت حربية، وزنها يتضاعف. اليوم، لا أستبعد أن محرّك الغفلية، والذي تم صيانته في بلانيس في مرحلة الصمت، هو الذي كان يشحن كل كلمة بضعف قوّتها.
أتذكر كيف، وهو يتكلّم ولا يكفّ عن الكلام، كيف بدأت تتجلى أمامنا فضيحة أننا في حضرة كاتب تنقصه تقلصات وحركات الوجه التي طالما تميّز وجوه الأدباء المحترفين. لقد لاحظت ذلك، على وجه الخصوص، خلال دقائق المؤتمر الصحفي الأخيرة والأبدية. خلالها أكرم علينا بولانيو بسردية مدهشة تفوق كل حدود. كان يتحدث عن أمر ما، وأفرغ كل ما عنده من شغف حول هذا الأمر. بدا الصحفيون وكأنهم صيادي سمك واقعين تحت تأثير التنويم المغناطيسي، جالسين حول طاولة ما في حانة من حانات بلانيس، يستمعون لبولانيو. في تلك اللحظة، هناك في فندق الكونديس دِي بارشلونا، بدا وكأن بولانيو اندفع في كتابة رواية جديدة كان يكتبها، هذه المرّة، ككلام ينطلق في الهواء. بدت الرواية وكأنها تخرج مباشرة من الصفحات الأخيرة من رواية «نجم بعيد». الحقيقة، والتي كنت أجهلها في حينها، هي أن الذي كان يحصل أمامي هو نفس الشيء الذي حصل من قبل مع رواية «نجم بعيد». فإن هذه الرواية أيضًا خرجت من الصفحات الأخيرة من كتاب «أدباء النازية في القارة الأمريكية»…
القصة مع بولانيو هي نفسها، لا تتغير أبدًا: كتاب يخرج من كتاب. الأشياء كلها، بطريقة أو أخرى، متداخلة ببعضها البعض. في الحقيقة، لقد وُلدت رواية «نجم بعيد» في اللحظة المحددة التي فيها سأل خورخي هيرالدي، في مكتبه في مقرّ دار نشر أناغراما، سأل بولانيو إذا كان بحوزته رواية ما لم تُنشر بعد، مخطوطة كتبها مؤخرًا ومن الممكن لأناغراما نشرها. لم تكن رواية من هذا النوع موجودة، طبعًا، لكن بولانيو أجاب بالإيجاب. خلال ثلاثة أسابيع، أي في زمن قياسيّ، كتب رواية مقترضًا، (وهذا بهدف كسب الوقت، مع أنه في مشروع بولانيو الأدبي كل رواية تحوي على رواية أخرى) كمية لا بأس بها من الكلمات من «أدباء النازية في القارة الأمريكية». لو كان عليّ ان أختار بين الجملة الأخيرة من «أدباء النازية» (والتي تقول: «دير بالك على حالك، بولانيو، قالها أخيرًا ومشى») ونهاية «نجم بعيد» («اعتني بنفسك، يا صديقي، قالها أخيرًا ومشى») لكنت اخترت «دير بالك على حالك، بولانيو». لكن المسألة هنا، بالطبع، هي شخصية، أي أنها دون أهميّة. الأهم من ذلك هو أن بولانيو خلال الأيام التي تبعت تسليم المخطوطة إياها لأناغراما مرّ بوقت عصيب وسعيد في آن (كان سعيدًا لأن هذه المرّة، على ما يبدو، لقد حالفه الحظ). كان الخوف مصحوبًا بإبتسامة مائعة تدل على التوتّر، وكأن احتمال اكتشاف دار النشر بأنه قام بإنتحال نفسه، على الأقل في جزء من النصّ، كانت مصدرًا للخوف والتسلية معًا.
في الفترة التي لحقت نشر «نجم بعيد» أخذت الأمور تسير على وتيرة شديدة وفي زمن قياسيّ. هكذا كانت الحال فعلًا لدرجة أنّي أحيانًا أتخيّله كأحد أبطال فيلم غي ديبور القصير «عن عبور بعض الأشخاص خلال وحدة زمنية قصيرة».
«إلى باولا، مع المودة والتقدير، من صديقك في الزمن القياسيّ. روبرتو، آذار 97»، كتبها على نسخة من كتاب «مسيرة الفِيَلة»، والذي نشرته بلدية طُليطلة عام 94. يُلفت انتباهي، الآن الدعاية التي وضعوها على ظهر الغلاف، والتي كُتب نصّها قبل حدوث ذلك الانقلاب الهام في حياة بولانيو ككاتب. فهذا النص لا يفشل في الترويج له ككاتب واعِد فحسب، بل يخذل أي قارئ يقترب منه. إن السيرة الذاتية التي وضعوها على ظهر الغلاف من شأنها أن تكون أكثر ردعًا للقارئ، إذ كانت تأتي من طبقة الجحيم العاشرة بحسب العدّ التنازلي بدءًا من الطبقة قبل الأخيرة: «وُلد روبرتو بولانيو في سانتياغو دي تشيلي عام 1953. عمل في حقل النقد الأدبيّ والترجمة. عمل محرّرًا مسؤولًا في مجلة Berthe Trepat. نُشرت له عدة قصائد في عدة أنطولجيات تعتني بالشعر التشيليّ. صدر له ثلاثة دواوين شعرية: إعادة اختراع الحب، ورشة مارتين بيسكادور، المكسيك العاصمة، 1976. أطفال عاريون تحت قوس القزح من نار، إصدارات إكستيمبورانيوس، المكسيك العاصمة، 1979 …».
منذ أواخر عام 96 بدت معظم تحرّكات بولانيو وكأنها تحدث في الزمن القياسيّ، وكأنها مُدمنة على الدوخان. أعود إلى دفتر مذكراتي وأجد فيه صفحات أسفاري إلى بلانيس خلال 1997 و1998. كان الهدف منها، في البدء، اللقاء بباولا. لكن، بعد أن تركَت باولا عملها في المدرسة الثانوية ولم تتخلى عن بيتها ذات السطح المطلّ على البحر، أصبح الهدف هو اللقاء مع كارولينا وروبرتو لنتناول وجبة العشاء في مطعم صينيّ سيئ، ولكنه كان يبهرنا، فلذلك أخذنا نصرّ على الأكل فيه. على مرّ الشهور، بدأت زيارة بلانيس وقضاء اليوم أو نهاية الأسبوع فيها تُشكّل طقسًا يشمل التواجد عند بوابة المدرسة عند انتهاء الدوام لإنتظار خروج لاوتارو، أو التحضير لإستقبال أ. ج. بورتا، صديق العائلة الحميم الذي طالما توّهنا في بحر من الغيبيّات الماورائية، المعقّدة والشائكة، عند هبوط الليل، ونحن في حانة ديل بويرتو. جوردي يوفيت، بونس بويغديفاي، غونسالو هيرالدي ولويسا كاساس، خافيير سيركاس وعائلته، جوان دي ساغارّا وماريّا خيسوس دي إلدا، كارليس فيلشيس، خينا وبيتير، وآخرين وأخريات، مرّوا من بلانيس خلال الأشهر الأولى من 97. هذا كلّه، طبعًا، مُدوّن في دفتر مذكراتي. تحرّكات، حفلات، أسماء، وقائع. دوّنتُ هذا كلّه. حتى السخافة التي اقترفها فيليم فوك في مساء يوم في حانة ديل كازينو، دوّنتها. أقصد حين أعلن أن بولانيو وقع في أحضان شبح البشرية…
ماذا كان يقصد؟ من أين لي أن أعرف، ولم يعد الأمر مهما. ربما كان على حق. ففي تلك الأيام، كانت البشرية تسافر على متن القطار المتجه من وإلى بلانيس.
كان ذلك في يوم 22 حزيران 1997، في مدينة جرندة، حين قام خافيير سيركاس بتنظيم ندوة حول كتاب «نجم بعيد» في مكتبة ليبريريّا 22، تبعها تناول العشاء. وبعد العشاء كانت هناك حفلة عظيمة، قد أقول حفلة وجودية (أي مثل أفلام أنطونيوني)  في منزل بيبا بالساش وأنجيل جوفي. كانت العودة إلى بلانيس بالسيّارة، عودة مؤثرة وداعية للقلق في آن، تتويجًا لهذه الحفلة.
في الـ29 من سبتمبر نزلا روبرتو وكارولينا إلى برشلونة ومضوا وقتًا في الشقّة الواقعة على رقم 80 من الشارع المُسمى، رسميًا، بـ«العبور الى فوق»، والذي أسمّيه بشارع العبور إلى الموت، وهناك ألقوا نظرة على كومة الرسائل التي كانت تصلني،  يوميًا، عند هبوط الشمس، على مدار سنتين. كانت تبعثها امرأة مجهولة، آل أسلوبها في الكتابة الى أن يصبح مألوفًا لديّ. كانت تعمل بالطريقة ايّاها، رسالة برسالة. أولًا، تبدأ الخطاب بسرديّة مطمئِنة، هادئة. فجأة، تفقد السيطرة على الكلمات، محدِثة دويّ انفجار في كل ما هو عادي ومؤدب وبلا طعم لتدخل في فوضى سرديّة وكأنها تريد أن تحطّم كل ما بدأت به في رسالتها (كان لهذا المبنى النصّي أن يذكّرني، وكيف لا، برواية «كتاب» للبرتغاليّ جوزيه لويي بيشوتو). انتشل بولانيو إحدى هذه الرسائل بشكل عشوائي وقرأها بصوت عال معلِنًا، وهذا ما أدهش الجميع، بأن الرسالة مكتوبة بصورة بارعة. وأجمل ما كان في الاعلان هو تعليله لماذا الرسالة مكتوبة بصورة بارعة. لم يكن مقنعًا فحسب؛ بل تعليله يُثبت لك أنّك أمام قارئ يستطيع أن يجد، في كل نصّ مهما كان تهوّره، حافزًا معيًنًا، ولو صغيرًا، من شأنه أن يجعله جديرًا بالقراءة.
بعد ساعة ذهبنا إلى شقّتنا، مارّين بالرواق الواقع بجانب مكتبة لا سينترال، لمشاهدة معرض الفنانة أليسيا فاراميس. آنذاك، كانت شابة ومجهولة، تسكن في أمستردام وبالتالي بعيدة عن صخب الضجة التي أقمنا، فيما بعد، حولها (والتي كانت، في حقبة زمنية أخرى من حياتي، جارتي في شارع العبور إلى الموت. كانت الفنانة الوحيدة التي سكنت ذلك الشارع الرهيب). كانت تعرض، في طابق الرواق السفلي، في إحدى الصالات الفنية التي لا يزورها أحد، لوحة خشبية ضخمة أطلقت عليها اسم «بيت للسكن فيه حتى الأزل» تكريمًا لإحدى رواياتي.كانت اللوحة مرشومة بخطوط أفقية باللون الأبيض والأسوَد، سُجِّل على السوداء منها عدد لا يُحصى من الكلمات.
قضينا وقتًا لا بأس به في طابق الرواق السفلي لأن بولانيو أدعى بأن اللوحة أبهرته. «إنها رائعة»، قالها عدّة مرّات، وجعلني أنا أيضًا أن أرى تلك اللوحة بعيون أخرى، وأن أجد العديد من الأسباب لاعتبارها تحفة فنية فذّة، لدرجة أنك الآن، إذا فعلتها وسألتني عنها، لن أكفّ عن الكلام عن كم هي رائعة تلك اللوحة.   
الثامن عشر من ديسمبر، في الـHappy Books، مؤتمر صحفي حول مجموعة «مكالمات تليفونية» القصصية، وفي الليل أقام إغناسيو إتشيفيريّا ندوة حول الكتاب في مقرّ المعهد الكتالاني للتعاون الإيبيروأمريكي (ICCI). ذاكرتي حول ذلك اليوم مشوشة، لكنها ليست كذلك بالنسبة للكتاب. من بين مجموعة القصص، هناك واحدة اسمها «جوانا سيلفيستري»، والتي تحتوي على اهداءٍ من بولانيو إلى باولا، وقصة «إنريكي مارتين»، تحتوي على اهداءٍ لي، ربما لأن اسمي، كإسم بطل الرواية، هو إنريكي، مع أنّي لا أشبه بالمرّة تلك الشخصية المُعجبة بالشّاعرين بميغيل إيرنانديس وليون فيليبي. إن قصة «سينسيني» هي بدون شكّ الأفضل من بين المجموعة، وهي لا تحتوي على اهداءٍ من بولانيو إلى أي أحد مع أنها، بجوهرها، هي الأكثر إهداءًا من بين كل قصص المجموعة. لقد كتبها بولانيو وفي ذهنه الكاتب الأرجنتيتي أنطونيو دي بينيديتّو الذي كان، في آخر عمره في إسبانيا، كالشبح المُنعزل، يبعث بقصصه ورواياته إلى مسابقات أدبية محليّة.
إن قصة «إنريكي مارتين»، إذًا، ليست أفضل قصة كتبها بولانيو. لكن الكتاب، ككلّ، متين وقويّ. إنه يُشكّل قراءة تحليلة، مثيرة ومعقّدة (كرواية «المحققون المتوحشون» التي لم تكن قد صدرت بعد) للتوتّر القائم بين السوق، والتقديس، والمقاومة الذي يعاني منه كل الأدباء المعاصرين. كما يقولان أندريس كوباس وفيرونيكا غاريبوتّو في مقالتهما «مرثية في الصحراء»، في كتابه هذا بولانيو يحاور الإحتمالات الثلاثة، القاسية والمرّة، المُتاحة أمام كل أديب معاصر: إمّا الخضوع إلى قوانين السوق (أي إلى ذلك الكم الهائل من الأدباء الرماديين والمحترفين)، أو الفرار منها نهائيًا من أجل مواصلة الكتابة بشكل سرّي ومجهول (كما يفعل إنريكي مارتين)، أو، أخيرًا، كما يفعل سينسيني، أو مثل راوي القصة التي تحمل هذا الاسم، أو كشخصية بيلانو في قصة «إنريكي مارتين»، يكمن الاحتمال الثالث في دخول عالم دور النشر والوسط الأدبي دون قبول بكل شروطه، بل مداعبته وكسر بعض أعرافه (مثل شخصية بيلانو في «المحققون المتوحّشون»، حين يسخر من «كبار» أدباء مدريد ومن معرض مدريد للكتاب).
لقد تكلّمنا، إذًا، عن الأديب المعاصِر وكيف يشقّ طريقه، أو كيف عليه أن يشقّ طريقه، مختارًا بين ثلاثة منافذ، ثلاث إمكانيات قاسية. ولكن، يخرج من قصة «مكالمات تلفونية» التي يحمل عنوانها الكتاب، يخرج منها احتمال رابع، وهو الحقيقة المرعبة التي تمتثل أمامنا لكن دون أن يكترث إليها أحد:
«إن ((ب)) أيضًا موافق، وهو على يقين بأنه مسدود هذا الزقاق».
هل كان الزقاق يحتوي على منفذ ما قبل 1996؟ بعد عامين، أصبح الزقاق مسدودًا، لا أكذب عليكم. أحيانًا افكّر بأن كلّ أعمال بولانيو الرئيسية، تلك التي كُتبت خلال الزمن القياسيّ حتى وفاته عام 2003، نَمَت وكَبرت ووصلت إلى كمالها في الزقاق الأكثر عسرًا، ذلك الذي ذكرته من قبل: زقاق ظالم ومميت، لا من ضوء آت من الفردوس ولا من متنفس، على إدراكٍ تام بالذعر النابع من تحقيق الرغبة التي طال انتظارها بعد أن توقّف محرّك الغفلية عن العمل، الرغبة التي، إذا تحقّقت، قد تعني الموت: لقد تم اكتشاف نجم بولانيو، لقد تم رصده من قبل الغربان الشرسة التي تطارد سكّان المنطقة الجديدة التي دخلها.    
قبل 1996 لم يكن هناك لا زقاق ولا مسدود ولا ما يحزنون. ما وراء جدران الطوب الخشنة والمغطاة بالظلال، بسلام وطمأنينية بسبب الإستقرار الذي منحته ايّاه العلاقة مع كارولينا، تمكّن بولانيو من الحياة بِحريّة، وكأنه يعايش عصرًا الأدباء فيه هم آلهة تكتب لهدف واحد ووحيد، وهو مخاطبة الموتى. لم يسمعوا بشيء يُدعى «مبيعات». كانوا غامضين ومنعزلين، يضيعون في أجواء من الهلاك، والفكاهة، والشِعر.
في أوائل العام 98 وصل بولانيو، متأخرًا، خبر وفاة ماريو سانتياغو في المكسيك، وكان ذلك في يوم العاشر من يناير. خوان بِيّورو سبق وكتب خبر النعي، في جريدة لا خورنادا المكسيكية، تحت عنوان «لقد كان شاعرًا». لكن الخبر وصل بلانيس متأخرًا. كان الخبر جافًا. مجرّد يقول إنه توفي ولم ترد فيه أية معلومات إضافية. أدخل الخبر بولانيو في كآبة لم يسبق لها مثيل. فخلال الصيف الماضي الذي سبق الخبر، كتب بولانيو إلى ماريو ليعلمه بأنه أطلق عليه اسم «عوليس ليما» في رواية كان يكتبها آنذاك، عنوانها «المحققون المتوحشون».
أجل، لقد ترك ماريو سانتياغو قصيدته الأخيرة (ويمكنكم قراءتها على أحد جدران حانة «بنت الأباتشي» في حي روميتا في المكسيك العاصمة، حيث يُشرب مشروب البولكي المكسيكي)، وهي عبارة عن بعض الأبيات التي تبدو، وهذا يتعلّق بكيفية تقرؤونها، بأنها حاشية على نهاية رواية «نجم بعيد» («اعتني بنفسك، صديقي، قالها أخيرًا ومشى»)، وكذلك، وهذا ممّا يقشعر الأبدان، على موته المفاجئ كنتيجة حادث دهس: «هكذا، يا بلاش / القصة وما فيها هي أن تعرف كيف تقوم عن الحبال / وتقف زلمة في مركز الحلبة / الحياة ضربة صامتة / الحياة سطلة استنشاق صمغ FZ / الحياة فيلم سريالي رخيص لـJuan Orol / ما دامك رايح ليكن على هذا المنوال / اقذف واهرب / كل واهرب / ارسم بجسدك وضعية الجنين / وهو لا يزال في بطن امه / ولكن هذه المرّة بجد / بشكل حاسم / بالشقلوب».
«ماريو كان شاعرًا شاعرًا»، قالها بولانيو في أواخر ذلك العام خلال حوار عن رواية «المحققون المتوحّشون». بصفته شاعرًا متجوّلًا ذات وجه يميل إلى القداسة، وهذا أمر لا نِزاع عليه، أنا متأكد من أن ماريو هو المقصود في السطور الأولى من قصة «إنريكي مارتين»، أي أن ماريو سانياغو هو بعينه ذلك الشخص الذي بوسعه أن يتحمّل كل شيء. أجل، كان ماريو سانتياغو شاعرًا شاعرًا. لقد تعلّم في الوقت المناسب أن عليه أن يعرف كيف يقوم عن الحبال. تلك هي المسألة، أقول، هذه لبّ القضيّة، that is the question: الزقاق مسدود، وهذا لا يقلّل من شأن ضرورة معرفة كيف تقوم عن الحبال.
«هناك قول بأن الشاعر بمقدوره أن يتحمّل كل شيء. قد تظن أن من وراء هذا القول هناك قول آخر بأن الإنسان بمقدوره أن يتحمّل كل شيء. هذا غير صحيح: بمقدور المرء أن يتحمّل بعض الأشياء. أن يتحمّلها بجدّ. أمّا الشاعر، فبمقدوره أن يتحمّل كل شيء. لقد كبرنا على هذا اليقين. إن العبارة الأولى صحيحة، ولكنّها تجلب لك خراب البيت، الجنون، والموت.»
«أولئك الذين لم يجعلوا من الأدب صنعة هم الذين أسمّيهم بالكلاسيكيّين» (من مذكرات جول رينارد). إن خراب البيت، والجنون، والموت، والخدعة الكبرى، أي خدعة الشباب، تقع في مركز رواية «المحققون المتوحشون». هذه ليس بجديد على أحد. أمّا بُنية الرواية فهي تتبع نموذج رواية «أبواب الجنة» للكاتب البولندي المنسيّ ييجي أندجييفسكي، وأيضًا تتبع نموذج «حملة الأطفال الصليبية» لمارسيل شواب (وهذا ما فعله فوكنر أيضًا في «نور في آب»). إن هاتان الروايتان، بالإضافة إلى «نور في آب»، كانت لبولانيو كالإنجيل. أذكر محادثتنا حول أندجييفسكي في ظهر يوم من شهر مارس عام 98 في التيرّيسانس. كان ذلك قبل عيد ميلادي الخمسين بأيام قليلة. كنّا على وشك الاحتفال بعيد ميلادي في مطعم ماسّانا في برشلونة، وفيه فشل بولانيو في محاولة قراءة نصّ فكاهي حضّره خصوصًا لهذه المناسبة. أتذكر مطلع الخطاب، والذي كان كالتالي: «قبل بزوغ الفجر، أيها الحضور الكرام، دعوني أخاطبكم بكلمة… اليوم صار عمر صديقي إنريكي سبعة عشر عامًا، وهذا يكفي. هل أنتم علي دراية بفظاعة العيش سبعة عشر عام في ظلّ الأدب …».
لنعود إلى الحديث الذي دار ظهر ذلك اليوم في التيرّيسانس، وإلى موضوعه الأكثر إثارة، لنسمّيه «عنصر الخروج من المتاهة». دار الحديث حول تلك المنافذ والاحتمالات القاسية الثلاثة المُتاحة، والتي طالما استشعرها كل من أندريا كوباس وفيرونيكا غاريبوتّو، الاحتمالات الوحيدة المُتاحة أمام أي كاتب  في أيامنا. إن ذرّة واحدة من الصدق تكفي لكي يسأل الكاتب نفسه ما هي الطريق التي يريد شقّها، وهل هذه الطريق مُرضية بما فيه الكفاية، أو هل الزقاق فعلًا مسدود كما استشعرنا في السابق.
في أغسطس من العام 1998 أعطاني بولانيو، بصفته أحد «أدباء زمان»، بعض النصائح الحيوية، وقد أقول مدهشة، لحلّ مشكلة وقعت فيها وأنا أكتب روايتي الجديدة «سفر عموديّ». كنت أعتقد أن روايتي خالية من الأحداث، وهذا ما قلته لبولانيو. لكنه اختلف معي. تعتقد، يا أستاذ، أن روياتك خالية من الأحداث، قال، ولكن دعني أقول لك أن في روايتك يحدث الكثير، بل تستمتع بفائض الأحداث. تكرّر نفس المشهد الذي حصل في طابق الرواق السفلي الذي عرضت فيه أليسيا فراميس «بيت للسكن فيه حتى الأزل». إن أحداث الرواية هي أحداث عظيمة، قال لي بحماسة عن السفر العمودي إلى البرتغال. لم يشّعني أحد بهذه الصورة من قبل. لن أنسى تلك اللحظة أبدًا، ففيها اكتشفت معنى الخروج من أزمة كنت أعتقد لا مخرج منها.
في الثاني من نوفمبر تسلّم بولانيو جائزة هيرالدي على روايته المفاجئة (لقد فاجأنا الزمن القياسيّ الذي كتبها فيه) «المحققون المتوحشون». إن هذه الرواية لم تخرج من اللا شيء، كما اعتقد البعض، بل ولّدها محرّك الغفلية العنيد. لقد استخدم بولانيو كمًّا هائلًا من الأوراق التي تراكمت عنده خلال السنوات التي عاشها بصمت، وبالتالي زادته قوّة.
في صباح يوم السادس من ديسمبر، انتقل مع كارولينا ولاوتارو من شقّتهم في بلانيس ليسكنوا في شارع أمبل رقم 13، الطابق الثاني، شقّة رقم 1. وفي السادس عشر من ديسمبر أقمنا في برشلونة ندوة احتفاء برواية «المحققون المتوحشون». افتتح الندوة خورخي إدواردس، وبعدها جاء دوري لأقرأ نصًّا عنونته «بولانيو عن بعد»، يحتوي على بعض الحركات المسرحيّة. كنت، وأنا أقرأ، إمّا أبتعد أو أقترب عن بولانيو. كان النص طافحًا بالحدس والتنبؤات، ففيه أشرت، كعقرب البوصلة، إلى الإتجاه الذي تسير نحوه علاقتنا. أذكر، من بين الحضور، كارولينا، هيرالدي ولالي غوبرين، خينا وبيتير، كارليس فيلشيس، مينيني غراس، باولا دي بارما، إغناسيو مارتينيس دي بيسون، خافيير سيراس. ورّط إدواردس نفسه حين قال عن الرواية إنها رائعة، رائعة جدا، ليصرّح من بعدها أنه لم ينته من قرائتها بعد. لقد تلقّى  بهدلة لا تُنسى، قد أقول بهدلة تاريخيّة، من مؤلفها. إن صوت دوي البهدلة تلك لا يزال يُسمع في أذني. عندما أسمعه، أتخيل بروست، وجويس، وشواب وأندجييفسكي، أتخيّلهم وهم يضمّون صوتهم إلى بولانيو، وكأنهم هم أيضا يذلّون إدواردس ويبهدلونه.
ما العمل؟ يأتيني صدى هذا السؤال الذي طالما كرّرناه في ذلك العصر، وهو لا يزال راهنًا حتى يومنا. لقد ناقشناه مليًّا خلال حديثنا ظهر ذلك اليوم في التيرّيسانس. «ما دامك تورّطت، عليك أن تغوص حتى العنق»، قال لويس فرديناد سيلين. هذه سنّة الحياة: حتى العنق. بإمكاننا أن نلاحظ كيف المنافذ الثلاثة، أي الإندماج الكامل، أو النزول إلى الخندق، أو دخول السوق بهدف تخريب قوانينه، باتت تفقد من قدرتها على اجتذاب واستقطاب أدباء اليوم. هذا يدعو إلى القلق. كانت هذه المنافذ، في السّابق، تبدو وكأنها فرص سخية من أجل تحقيق العودة إلى العالم الخارجي، أمّا الآن، فهي لم تعد تبدو كذلك. إنه مسدود هذا الزقاق. بل هو خال حتى من شبابيك تطل منها إلى الخارج. مع ذلك، عليك أن تعرف كيف تقوم عن الحبال. ينتهي الأمر بكل شاعر، أقصد بكلّ شاعر شاعر، إلى أن يقضي وقتًا لا بأس به في الزقاق المظلم ويكون مجهولًا بعد أن اختلسه محرّك الغفلية الموجود في كل مكان. في الزقاق المظلم تكون معرضًا للسرقة، للمعاكسة والتحرّش، للملاحقة، يطلبون منك الولعة، ينشلوك، يمصّولك اياه، يرعبوك، يطلقون عليك النار. لا يوجد شيء خارج الزقاق، سوى ذاكرة الأيام السعيدة التي كنت فيها تراكم قواك («ما زلتُ صامتًا، كتب نابوكوف الشاب، ومع الصمت أقوى وأكبر. إن ذروة اعمالي المستقبلية والبعيدة لا تزال متوارية بين ظلال روحي، كقمم الجبال حين يعانقها الضباب قبل الفجر»)، وتظن بأنه آت ذلك اليوم الذي فيه، وأخيرًا، سوف تُتاح لك فرصة مخاطبة الجمهور الكريم بكلمة، تلك الكلمة التي أُجِّلت الكثير من المرّات، لتعترف أمام الجمهور بأنّك… أنت، نعم، أقصدك أنت، بأنّك أنت هو جاك السفاح الذي كان طوال كل هذا الوقت مجهول الهويّة. أجل، ففي تلك اللحظة تبدأ القصة، وفيها، بالضبط، تنتهي.
قبل وقت قصير، في مهرجان باراتي الأدبي في البرازيل، كانت لي مُداخلة متطرفة حول وضع الأدب في العالم اليوم، والتي عَنونتها «موسيقى المنحوسين». من بين الأشياء التي قلتها، قلت إنه في الحقيقة، فيما يتعلّق في الأدب، كل شيء قد انتهى. قلت أيضًا إنه ربما، إذا والفنا الحظ، قد يمكننا اجتناب التعميم في هذا الشأن وأن لا نحكم على الأدب، على كل الأدب، بأنه انتهى إلى الزوال والفناء. ولكن، مع ذلك، لا يمكننا إنكار حقيقة أن الأدب، النثر منه على الأقل، تحوّل إلى سلعة مثلها مثل أي سلعة تُشترى وتُباع في السوق: أي إلى شيء مثير، مميّز، تُعب عليه، مُحترم، ولكنه، ولا يمكننا فعل أي شيء حياله، أصبح تافهًا… ما تبقّى لنا، قلت، هو طرح السؤال التالي على أنفسنا: أليس من الأفضل لو كان الأدباء يُقرأون فقط، ولا يُرَوْن؟ فأنا دائمًا مع الرأي القائل بأن الأدباء، حين يصبحون مرئيين، يصيبهم بالنحس.
في اليوم التالي وجدت الصحافة البرازيلية تهاجمني بأني اسأت الظن في مهرجان باراتي الأدبي الذي توافدوا عليه الكثير من الأدباء، ومن بينهم أنا، لكي يُرَوْن. بدا لي بأني وقعت ضحية سوء الفهم، أو، بالعكس، لقد وقعت ضحية حسن الفهم الخطير، وعليّ الآن أن أتحمّل نقمة المعاقبة بالمثل وزيادة. في الليل كنت اسأل نفسي لماذا، لماذا غلّبت حالي، لماذا هذه المداخلة المتطرفة التي كل ما أردت فيها هو ان أتكلّم عن   المنافذ المُتاحة أمام الأدباء في أيامنا، والتي بواسطتها يحقّقون الحرية. هل أحرزت شيئًا بخطبتي هذه؟ فقط أثرت الفضيحة عند مجموعة كبيرة من السيّدات البرازيليات، وممّا زاد الطين بلّة هو أنّي لم أزد ولا أنقّص بشيء؛ فقط أبديت للعالم بأنّي شخص يضع نفسه بمواقف بائخة دون أي داع، وهذا ما لم أقصده بالمرّة.
في الفندق، في وقت العشاء، أخذت أراقب أدباء بريطانيا وأمريكا الشمالية من طاولتي. كلّهم يسافرون حول العالم، يتذوقون الشهرة (أتكلم عن جوناثان فرانزن، ايان ماك ايوان، حنيف قريشي). فبالنسبة لهم، الأمر أبسط من ذلك بكثير. الكتابة هي همّهم الوحيد، لا أن يضيّعوا الوقت بإتخاذ مواقف مشاغِبة لا فائدة منها، أو بجدالات ماركسية ومزاودات ثورية أكل الدهر عليها وشرب. والأسوأ من ذلك: إنهم أغنياء، مشاهير وسعداء.
عندما تحدثت عن الموضوع مع أحد الصحفيين البرازيليين، فوجئت وهو يعلمني بأني لست محقًا. لا تذهب بعيدًا، قال، فصباح اليوم تكلّمت مع ماك ايوان، الذي أخبرني بأنه ليس سعيدًا. إنه مُشتاق إلى تلك السنوات التي كان فيها مجهولًا، يكتب دون إزعاج.
لم أقل شيئًا. بل ابتسمت. جال في خاطري أن هناك، في مدينة باراتي، لقد مشيت، وبأقصى قدر من الثبات، خطوة إلى الأمام. مشيت نحو ذلك اليوم الذي فيه سوف أعرف كيفيّة القيام عن الحبال. وحينها، طبعًا، تذكرت بولانيو، وحسدته على حريّته الأبدية من كل هذه الخزعبلات. بقي بولانيو شاعرًا إلى الأبد، بعيدًا عن ذباب المسلخة القديمة في بلانيس. لا معابد، ولا بساتين. لا مافيات، ولا أزقة. حرّ وطليق، كشعراء طروادة الطيّبين.
ــــــــــــــــــ
النص تم نشره بالاتفاق مع المترجم.
عن مجلة:






تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا