التخطي إلى المحتوى الرئيسي

عينا سيلينا

 عينا سيلينا
قصة: برناردو كوردون (الأرجنتين)
ترجمة: صالح علماني
في الأصيل الذي جعله الحر مائلاً إلى البياض، بدت عينا سيلينا كأنهما بئرا ماء بارد. فلم أعد أبتعد عنها، وكأنني وجدت فيها ظل شجرة صفصاف وسط الحقل الذي تلهبه الشمس. لكن رأي أمي كان مختلفاً: «هي التي سعت إليكَ، تلك المُنحطّة»، هذا ما قالته لي. وكالعادة لم أجرؤ على مخالفتها. ولكن، إذا لم تخني الذاكرة فإنني أنا الذي ظللت إلى جوار سيلينا وبي رغبة في النظر إليها كل لحظة. ومنذ ذلك اليوم صرت أساعدها في القِطاف، ولم يرق ذلك أيضاً لأمي المعتادة على الأساليب التي علمتنا إياها في الأسرة. أعني، العمل الشاق المتواصل دون التفكير بأي شيء آخر. وكل ما كنا نكسبه نعطيه لأمي، دون أن نُبقي لأنفسنا بيزوًا واحداً. فعجوزنا هي التي تتولى دوماً نفقات البيت ونفقاتنا.
لقد تزوج أخي قبلي، لأنه أكبر مني سناً، ولأن زوجته روبيرتا بدت محبة للعمل وصموتاً مثل بغلة. فهي لم تتدخل في شؤون الأسرة واستمر كل شيء على حاله، حتى أننا لم نعد ننتبه بعد وقت قصير إلى وجود امرأة غريبة في البيت. أما سيلينا فكان أمرها مختلفاً. فهي تبدو ضعيفة وغير مناسبة للعمل. ولهذا كانت أمي تكلفها بأقسى أعمال الحقل، لترى إن كانت ستتعلم أخيراً.
ولسوء حظ سيلينا فقط، خطر لها أنه يمكننا بعد زواجنا أن نقيم في بيت مستقل، وأن أحتفظ بنقودي لنفسي. وقد قلت لها إنني لن أفعل هذا بأمي مقابل أي شيء في الدنيا. وشاء سوء الطالع أن تعلم العجوز بفكرة سيلينا. فصارت تعاملها على أنها مجنونة ولم تغفر لها أبداً. لقد خجلتُ خجلاً شديداً لأن زوجتي تفكر بطريقة مختلفة عنا جميعاً. وآلمني أن أرى أمي شاكية. كما أنها أنبتني لأني لم أعد أشتغل جيداً كالسابق، وكانت هذه هي الحقيقة المحضة. فالواقع أنني كنت أقضي وقتاً طويلاً إلى جانب سيلينا، وكانت المسكينة تنحل يوماً بعد يوم، لكن عينيها بالمقابل كانتا تكبران. وهذا بالتحديد ما كان يفتنني: عيناها الكبيرتان. ولم أكن أملّ من النظر فيهما أبداً.
مرت سنة أخرى، وساءت الأمور أكثر. فروبيرتا التي تعمل في الحقل مثل أتان قد أنجبت ابنها الثاني. كانت أمي تبدو سعيدة، لأن روبيرتا، مثلها تماماً، تنجب ذكوراً للعمل. أما من سيلينا فلم نحصل على أولاد، حتى ولا على مولودة أنثى. لم أكن أشعر أنني بحاجة إلى أولاد. لكن أمي كانت تؤنبنا. ولم أجرؤ على مخالفتها أبداً، وخصوصاً حين تكون غاضبة، مثلما كانت في ذلك اليوم الذي استدعتنا فيه، نحن ابنيها، لتقول لنا إنه لا بد من التخلص من إزعاج سيلينا في البيت، وإنها ستتولى هي نفسها هذا الأمر. بعد ذلك بقيت تتحدث إلى أخي. وقد أحزنني هذا كثيراً، لأننا لم نعد كالسابق، حين كنا نحلّ كل شيء معاً. فأمي تتفق الآن مع أخي على انفراد. وعند المساء رأيتهما يذهبان في العربة ومعهما قدر ولفافة قماش. ففكرت بأنهما ذاهبان إلى الجبل للبحث عن أعشاب برية أو عن تميمة من أجل إشفاء سيلينا. ولم أجرؤ على سؤالهما شيئاً. فقد كنت أخشى دوماً رؤية أمي غاضبة.
في اليوم التالي أخبرتنا والدتي بأننا سنخرج يوم الأحد في نزهة إلى النهر. لم يكن يبدو عليها أبداً أنها محبة للنزهات أيام الآحاد أو في أي يوم آخر، لأن العمل لم يكن ينقصنا في البيت أو في الحقل. لكن ما جعلني أستغرب الأمر هو أنها أمرت سيلينا بالمجيء معنا، فيما كان على روبيرتا البقاء في البيت لتتولى شؤونه وشؤون الصغيرين.
لقد تذكرتُ في يوم الأحد ذاك الأزمنة القديمة، حين كنا صغاراً. وبدت أمي سعيدة وأكثر شباباً، فقد جهزت الطعام للنزهة وربطت الحصان إلى العربة، ثم أخذتنا إلى حيث منحنى النهر.
كان الوقت ظهراً، وكان الجو حاراً كأنه الفرن. طلبت أمي من سيلينا أن تذهب لتدفن دمجانة النبيذ في رمال النهر الباردة. وأعطتها كذلك القدر الملفوفة بقطعة القماش.
ـ افتحي هذه عند النهر، واغسلي البندورة التي فيها جيداً كي نصنع السلطة.
بقينا وحدنا وليس لدينا كالعادة ما نقوله. وفجأة سمعتُ صرخة من سيلينا أوقفت شعر بدني. ثم أنها نادت بصرخة كصرخة حيوان جامح. أردت أن أركض نحوها، لكنني فكرت بأعمال السحر واعتراني خوف شديد. ثم إن أمي طلبت مني ألا أتحرك من مكاني.
جاءت سيلينا مترنحة وكأنها قد شربت وحدها كل النبيذ الذي حملته إلى النهر لتبرده. ولم تفعل شيئاً آخر سوى النظر إليّ نظرة عميقة بهاتيك العينين، ثم انهارت على الأرض. انحنت أمي فوقها، وتفحصت جسد سيلينا بدقة. وأشارت قائلة:
ـ هنا، تحت المرفق.
وقال أخي:  
ـ هنا بالضبط لدغتْ الأفعى.
كانا يتفحصان بعيون متفاهمة. وفتحت سيلينا عينيها وعادت تنظر إليّ وتلعثمتْ قائلة:
ـ أفعى. كانت هناك أفعى في القدر.
نظرتُ إلى أمي، فوضعتْ إصبعها على جبهتها لتشير إلى أن سيلينا قد أصيبت بالجنون. والحقيقة أنها لم تكن تبدو بكامل وعيها: كان صوتها يرتعش، ولم تكن تكمل نطق الكلمات، مثل مخمور متلعثم اللسان.
أردتُ أن أضغط على ذراعها كي لا يسري السم فيه، لكن أمي قالت إن الوقت قد فات، ولم أجرؤ على مخالفتها. حينئذ قلت إنه يتوجب علينا أن ننقلها بالعربة إلى القرية. ولم ترد أمي عليّ. كانت تضغط شفتيها، ففهمتُ أنها آخذة بالغضب. عادت سيلينا تفتح عينيها، وبحثت عني بنظرها. حاولتْ النهوض، وخطر لنا جميعاً أن السم لم يكن قوياً بما يكفي. حينئذ أمسكتني أمي من ذراعي وقالت لي:
ـ لا يمكن إصلاح هذا إلا بطريقة واحدة. يجب أن نجعلها تركض.
ساعدني شقيقي على رفعها عن الأرض. قلنا لها إنه عليها أن تركض لتشفى. الحقيقة أنه يصعب على أي كان الركض في مثل تلك الحالة: فالسم يصبح أسوأ عند الركض ومفعوله أسرع. لكنني لم اجرؤ على مجادلة أمي، ولم يكن يبدو على سيلينا أنها تفهم شيئاً. كانت كلها عينين ـ وأي عينين! ـ تنظر إليّ وتشير لي برأسها أن نعم، لأنها لم تعد قادرة على تحريك لسانها.
حينئذ صعدنا إلى العربة، وانطلقنا عائدين إلى بيتنا. لم تكن سيلينا قادرة على تحريك ساقيها إلا بمشقة، ولم أعرف إن كان ذلك بفعل السم أو لخوفها من الموت. كانت عيناها تكبران أكثر فأكثر، ولم تكن ترفع نظرها عني، وكأنه لا وجود لشيء آخر في الدنيا سواي. كنت أفتح لها ذراعي وأنا في العربة مثلما يفعلون حين يعلّمون طفلاً صغيراً المشي، وكانت هي تفتح ذراعيها كذلك، مترنحة مثل سكران. وفجأة وصل السم إلى قلبها وهوت على الأرض مثل عصفور صغير.
سهرنا على جثتها ودفناها في اليوم التالي في الحقل. ذهبت أمي إلى القرية للإبلاغ عن الحادث. واستمرت الحياة كالعادة، إلى أن جاء في مساء أحد الأيام مفوض تشانيارال مع شرطيين وقادونا إلى القرية، ثم إلى سجن ريسيستنثيا.
يقولون إن روبيرتا هي التي نقلت للقرية حكاية الأفعى في القدر. ونحن الذين كنا نظنها صموتاً كبغلة! لقد كانت تتصنع دوماً لتبدو وكأنها ذبابة ميتة، ولكنها استولت أخيراً على البيت وعلى العربة وعلى كل شيء.
ما أسفنا عليه حقاً، أنا وأخي، هو ابتعادنا عن العجوز حين نقلوها، وإلى الأبد، إلى سجن النساء. لكنني لا أشعر في الحقيقة بأنني في حالة سيئة، فالعمل في السجن أقل والأكل أفضل مما كان عليه في الحقل. والشيء الوحيد الذي أريد أن أنساه، ولو لليلة واحدة، هو عينا سيلينا حين كانت تركض وراء العربة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا