التخطي إلى المحتوى الرئيسي

القِصّـة

خواكيم مُونْثو إي غوميث (اسبانيا) *

Joaquim Monzó i Gómez
ترجمة: توفيق البوركي

عن موقع قاب قوسين

يجلس الرّجل عصراً إلى مكتبه، يأخذ ورقة بيضاء، يثبّتها على الآلة الكاتبة ويشرع في الكتابة. الجملة الافتتاحيّة تنساب بسرعة، الثّانية أيضاً؛ بين الثّانية والثّالثة بضع ثوانٍ من التّردد.
يملأ صفحة، ثمّ يسحب الورقة من الآلة ويضعها جانباً مُولياً الجهة الفارغة إلى الأعلى، يضيف ورقة أخرى للورقة للأولى ثمّ ورقة ثانيّة وهكذا دواليك. بين الفينة والأخرى يُعيد قراءة ما كتبه؛ يشطب كلمات، يُغيّر التّرتيب بين الجمل، يحذف فقرات ويرمي أوراقاً بكاملها في سلّة المهملات. فجأة يسحب الآلة ويأخذ حزمة الأوراق المكتوبة يقلبها والقلم بيده: يشطب، يغيّر، يضيف، يحذف.

يضع الأوراق المصحّحة على يمينه، يقترب مجدّداً من الآلة ويعيد كتابة القصّة من بدايتها إلى نهايتها. ما إن ينتهي حتّى يُعيد تنقيحها وكتابتها على الآلة من جديد.
جنّ اللّيل وهو لا يزال يقرأها للمرّة الألف؛ النصّ عبارة عن قصّة. تُعجبه كثيراً حتّى أنها جعلته يبكي من الفرحة، إنّه سعيد. ربّما هي أفضل قصّة كتبها خلال مسيرته. تبدو له مكتملة تقريباً. تقريباً، لأنّ ما ينقصها هو العنوان فقط. عندما يجد لها عنواناً مناسباً، ستصير غاية في الكمال.
يفكّر في أيّ عنوان سيضعه لها. يخطر له عنوان ويدوّنه على الورقة لير كيف سيبدو. لم يكن ذا جدوى، أمعن النّظر فيه جيّداً، لم يكن مناسباً اطلاقاً؛
 يشطبه ويفكّر في عنوان آخر. عندما يعيد قراءته يقوم بالتّشطيب عليه أيضاً.
كلّ العناوين التي تخطر له تضرّ بالقصّة: إما لأنّها واضحة جدّاً، وإمّا لأنّها تُغرق القصّة في متاهة السّريالية التي تناقض البساطة، وإمّا لأنها مجرّد ترهات ستُضيّع القصّة.
في لحظة يفكّر أن يُعنونها هكذا: "بدون عنوان" لكنّ هذا سيفسدها أكثر. خطر له بشكل جدّي أن يستغني عن العنوان ويحتفظ بالحيّز المخصّص له فارغاً. لكن هذا الحلّ هو الأسوأ بين باقي الحلول. ربّما هنالك قصّة قد لا تحتاج عنواناً، لكن هذه بالذّات تحتاجه وبشكل دقيق: إذ سَيُحوِّلها من قصّة شبه متكاملة إلى أخرى غاية في الكمال، وستكون من أفضل ما خطّت أنامله على الاطلاق.
بحلول الصّباح يُقرّ بهزيمته: إذ لا يوجد عنوان جيّد لهذه القصّة يفي بالغرض، وهو ما حال دون وصولها مرتبة الكمال. باستسلام (كان يعلم أنّه لا يستطيع فعل شيء آخر) يأخذ الأوراق التي كتب عليها القصّة ويمزّقها إلى النّصف ثمّ يمزّق هذا النّصف إلى النّصف وهكذا إلى أن تتحوّل إلى فتيت. 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*خواكيم مُونْثو إي غوميث : المعروف بكيم مونثو هو كاتب ومترجم اسباني من مواليد مدينة برشلونة سنة 1952. يكتب باللغتين الكطلانية والاسبانية.

 

النص الأصلي :

http://narrativabreve.com/2013/09/cuento-breve-quim-monzo-el-cuento.html





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا