التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الشاعر الكوبي اللبناني أوسفالدو ساوما.. عيون الأرز على جبال كوستاريكا

 أوسفالدو ساوما  

أوسفالدو ساوما، سليل عائلة لبنانية هاجرت إلى كوبا عام 1880، ثم بدأت تنتقل إلى كوستاريكا وغيرها من بلدان أميركا الوسطى منذ العام 1887. هو صوت شعري بارز في كوستاريكا، بل يعدّ من أهم الشعراء الذين تركوا بصمات واضحة على مسيرة الشعر فيها وأثّروا في كثير من الشعراء الشباب.
ربما تكون نظرته الحادة هي ما يميزه، وربما تكون تلك الملامح التي تستعيد جمال جبال الأرز ميزة أخرى له، وقد تكون تلك المرونة التي تنقلك إلى بقاع لبنان هي ما يتفرّد به الشاعر أوسفالدو ساوما الذي لم تنل منه سنواته الأربع والستون شيئا، بل منحته حنكة وخبرة وإقبالا على الحياة.
ماناغوا/نيكاراغوا- ذكر لنا ساوما، حين التقينا به، كيف كان المهاجرون اللبنانيون يجتمعون في "البيت اللبناني" أيام السبت، مصطحبين معهم أبناءهم الذين كانوا يقضون الوقت في اللعب، لكنهم في الوقت ذاته يعون بأنهم ينتمون أيضا إلى جماعة مختلفة، إلى شيء آخر، بعيد عن محيطهم.
في البيت اللبناني، استمع ساوما للمرة الأولى للغناء العربي، لأغاني الجبال اللبنانية، وضربت قدماه الأرض، وارتفعت عنها، في محاولة منـه لتقليد أقربائـه وهــم يرقصون الدبكة. البيت اللبنــاني أيضــا، كانــت به قاعات عدة، للبليــاردو وكرة التنس وصالات للرقص وعرض الأفلام التي كانوا يشاهدونها سويا.

مينـــــــاء الأب

حصل جد أوسفالدو ساوما على الجنسية الكوبية كغيره من اللبنانيين وتزوج من جدته اللبنانية التي كانت تعيش في كوستاريكا. وعندما كان أبوه في عمر العاشرة، انفصل الزوجان لتنتقل الأم مع أبنائها الستة إلى كوستاريكا.

ويبقى الأب في كوبا، فتأتي قصيدة "طفل عجوز هو أبي"، يصور فيها ساوما عواطفه حيال موت الجد وحده في كوبا، بعيداً عن عائلته. فيقول فيها:

"الآن بإمكانك الرَّحيل بسلامٍ / يا أبي الطِّفل العجوز / الأحفاد يتحدَّثون عنك / كأنًّك لم ترحل / كأنًّك حاضرٌ موجودٌ / في حياتنا

لا تخف / ليس جيِّداً أن تعبر نفق النُّور /

الحور سيعيدون لك قلب الطفل / وستلعب من جديد بين شمس الأموات / سأمنح أبي

العناق الذي لم أمنحه ساعة موته / لأبي الذي يرقد الآن / منبوذاً في "ميناء الأب".

كان والد ساوما يروي له كثيرا عن قصص أقربائه الذين هاجروا إلى كوبا وخصوصا الجد الأكبر بطرس ساوما الذي كان أول من حطت قدماه على أرض كوستاريكا. لم يزر ساوما لبنان أبدا، لكنه شاهد جبالها وأنهارها، حقولها وبحرها في كتابات جبران خليل جبران، وذاق طعامها في بيوت أقربائه الذين ما زالوا يحرصون على إعداد الأطعمة اللبنانية من وقت إلى آخر إلى حد الآن.

ساوما المولود عام 1949، ينتمي إلى الجيل الرابع، من أب لبناني وأم كوستاريكية، لم يحفظ عن والده الذي لم يكن يتحدث عربية جيدة سوى كلمات عربية بسيطة، إلا أنه يرتبط روحيا بتلك اللغة.

وعن تعريفه للوطن يقول: "الوطن هو تلك السفينة التي نبحر بها جميعا، مسار قلب المجرة. هذا تعريف مثالي، لكن في الواقع الحالي الذي أعايشه فهو المكان الذي منحني الانتماء إليه. هذا التحديد الجغرافي ذو الأهمية القصوى في عصر العولمة. هناك عشت بين مزارع القهوة والمراعي في سان بيذرو دي أوكا".

روح عربيـــــــة

لا تخلو قصائد أوسفالدو ساوما من الإشارات التي تذهب في اتجاه أصوله العربية، إذ نُلفيه، في قصيدته "روابط الدم" التي تتحدث عن مخلوق خرافي توحده روابط الدم، يقول مؤرّخا لجذوره العربيّة:

"لا أعرف بيروت / ولا أرز لبنان / لم أعرف جدي / ولا والده الشيخ العجوز / لا أعرف أية كلمة عربية / ولا إن كنت سنيّاً أم شيعيّاً / أو إن كنت فينيقيا / يبحر في البحر المتوسط / أو في زمن العظيم صلاح الدين / ولدت بالقرب من خط الاستواء / على متوسط عشر دوائر عرضٍ شمالا / وأربع وثمانين درجة طول غرب خط غرينتش / أعلم أن لا وطن لي/ غير هذا الوطن الذي يعيش فيه أبنائي / غير أني /ارتديت جبة محمد في شارع تطوان / وبتأثير هذا الزي / رأيتُني عربيا بين العرب / وقبل أن أقع مبهورا / أمام جمال قصر الحمراء / أدركت وجود عجائب زخرفهم / وعندما عرفت جبران خليل جبران للمرة الأولى / تذكرت التاريخ الراقد / في الخيط المشترك لروابط دمنا".

لا يمكن لساوما الذي يرى أنه يرتبط بأي عربي بروابط الدم أن يتجاهل وجود أي عربي في محيطه، سيما إن كان هذا العربي شاعرا ومثقفا كحاله، يحدثنا عن صديقه الشاعر العراقي أنور الغساني بنبرة حزينة تبين مدى العلاقة التي كانت تربط بينهما فيقول: "غالبا ما كنا نحتسي القهوة في المقهى القريب من جامعة كوستاريكا. وكانت أحاديثنا تدور حول القضية الفلسطينية والعراق وغيرهما من القضايا العربية".

يتمنى ساوما لو أنه التقى بمزيد من الشخصيات العربية التي تحمل الهم الثقافي ذاته، وبالرغم من أن وسائل الاتصال تنوعت الآن بتطور التكنولوجيا إلا أنه يفضل لو أنه عاصر أحداث الوطن العربي ومرّ بمعاناته، ووقف جنبا إلى جنب مع أولئك الذين تربطه بهم روابط الدم، فهذا أقل ما يمكن تقديمه إنسانيا مع أشقائه من العرب ضد الامبريالية الصهيونية الأميركية، على حد تعبيره.

ملائكة غاضبة

في قصيدته "انتفاضة"، يتجلّى وقوف ساوما، بقلمه وشعره، مع محنة إخوته من الشعب الفلسطيني، يكتب ساوما القصيدة، وينشرها ويلقيها في مختلف المحافل والأنشطة، ينشرها في أكثر من موقع غير عابئ بحكومته اليمينية التي لطالما ساندت الكيان الصهيوني، وفي هذه القصيدة يقول:

"هذه قصيدة / ولدت من غضبي / من حيثما يمر / يلقي أحجاراً من سخطه / وتنحبس في صدره الحار / مرارة الأرق / والألم المرتد / لا شيء يوقف ركوبك الضاري للخيل / كفارس خامس ينفض غبار النجوم / عن وضاعة التاريخ / يشعل نيرانا على عتبة الزمن / يخلِّف رماد البارود / لوهم الجلادين.

يهيم على وجهه / يخيف حمائم النزاع /والسيف في يده / يصب كراهيته / على رؤوس الحكام. / هذه قصيدة / تجرها ملائكة غاضبة

تخرج الكلمات من أفواهها الجافة / كنبع من مياه دموية / أو هدر حجارة / على أنقاض مدينة مصنوعة من أحجار مصفوفة".

حفيد جبران

تعدّدت قراءات ساوما الشّعرية، لكنه يضع جبران خليل جبران على رأس قائمة الشعراء العرب الذين يهوى الاطلاع على أعمالهم، بل ربما أكثر الكتاب الذين تأثر بهم. كما يسهب ساوما في الحديث عن شعر كثير من الشعراء اللاتينيين من أصول عربية أضافوا الكثير إلى الأدب اللاتيني، ومن بين هؤلاء الشعراء يذكر خايمي سابينس وفياض خميس وراؤول هوميس هاتين، وجميعهم من أصول لبنانية.

ومن تركيا يحب شعر ناظم حكمت ويقرأ لعمر الخيام الفارسي. ثم يذكر عددا من شعراء العالم الذين يعتبرهم بشكل من الأشكال عرَّابي الشعر في بلادهم، منهم كارلوس مارتينس ريفس وفرناندو بيسوا وقيصر باييخو وأوكتافيو باث وبيسنتي ويذوبرو وعزرا باوند وغيرهم. يعيش ساوما للأدب والشعر، فهو مدرس للأدب الأسباني في الجامعة، ويقول عن نفسه إنه لا يصلح لمهمة أخرى بعيدة عن هذا المضمار.

وعن الشعر يقول إنه من الممكن ألا يغير العالم، ولا يصلح من شأن الرأسمالية المتوحشة، ومع هذا فلا وجود للعالم دون وجود الشعر. الشعر ولد مع الإنسان وسيبقى طالما له وجود. فساوما لا يعتقد أن بإمكان الشعر أن يحسن من وضع العالم لكنه بطريقة ما ربما يوقف الكوارث التي يقترفها أصحاب السلطة.

جسر بين ثقافتيْن

يرى ساوما أن الهجرة العربية إلى أميركا اللاتينية قد ساهمت أيضا في إثراء الثقافة اللاتينية، فقد وصل العرب الشوام إلى كل مكان فيها، ولم يتركوا بصماتهم فقط في المجال الأدبي، بل خاضوا مضامير كثيرة، على المستوى الفني والأكاديمي والإعلامي والاقتصادي والسياسي.

يؤمن ساوما بضرورة التواصل مع العالم العربي ثقافيا وخصوصا ما يمثله ذلك من أهمية له ولأمثاله من الشعراء من أصول عربية. ويقول عن دول أميركا اللاتينية إنها قد بنت جسورا بين الثقافتين، فهناك كثير من الفعاليات والمهرجانات الشعرية المهمة التي تدعو شعراء عرب إلى بلادها، منها مهرجان مديين في كولومبيا ونيكاراغوا وكوستاريكا والمكسيك وغيرها. وهذا مهم ليس فقط لإغناء الثقافة اللاتينية بل العربية أيضا.

ويجدر بالدول العربية أو مؤسساتها الثقافية أن تأخذ هذا التبادل بعين الاعتبار، وتتواصل مع هؤلاء الأدباء الذين هم أصلا أبناؤها، إذ يرى ساوما أن الموضوع ليس بهذا التعقيد، فهناك الأنطولوجيات والمهرجانات والفعاليات الثقافية التي ستقرب، بالتأكيد، ما بين هذين العالمين.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا