التخطي إلى المحتوى الرئيسي

حوار مع بابلو نيرودا*

الفاشية الإسبانية حطمت جمهورية الشعراء ولوركا ضحيتها التي لا تغتفر.


بابلو نيرودا (12 تموز/ يوليو 1904 – 23 أيلول/ سبتمبر 1973) شاعر تشيلي الشهير ومرشحها لرئاسة الجمهورية عن الحزب الشيوعي، عام 1969، ليتنازل بعيد الترشيح بايام لصالح سلفادور اليندي، مرشح الوحدة الشعبية، من أجل منع انقسام أصوات المرشحين لليسار التشيلي، وليفوز اليندي في الانتخابات رئيساً للبلد، ونيرودا من أكثـر شعراء القرن العشرين ارتباطاً بالسياسة، حسب إعلانه عن هذا الارتباط في مناسبات كثيرة، فهو القائل: "لم افكر، أبداً، وطيلة حياتي، بأن أفصل بين الشعر والسياسة".


وهو القائل في كلمة له كمرشح رئاسي، في 30 أيلول ( سبتمبر) 1969: "أنا مواطن من تشيلي، وعرفت، لعقود طويلة، الفقر والقسوة التي لازمت وجودنا القومي، وشاركت الناس أفراحهم وأتراحهم، فلست غريباً عنهم، بل جئت من بينهم، أنا جزء من الناس، وأنا ابن عائلة عمالية، ولم أكن، في يوم من الأيام، مع أصحاب السلطة والنفوذ، وأحسست على الدوام بأن مهمتي وواجبي خدمة الشعب التشيلي في افعالي وشعري، وعشت مغنياً لهم ومدافعاً عنهم". 
شاعر عالمي أشهر من أن يُعرّف، وسبق للعراقيين وبقية القراء في العالم العربي أن قرأوه مترجما، ومذكراته التي ترجمت في السبعينات بعنوان (أشهد أنني عشت) لاقت رواجاً واسعاً بترجمة الدكتور محمود صبح، خصوصاً بعد الأحداث الدامية التي شهدها بلده تشيلي إثر انقلاب العسكر بقيادة الجنرال بينوشيت، برعاية وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، على الحكومة المنتخبة ورئيس البلاد سلفادور اليندي عام 1973 وقتل أثناء الانقلاب الرئيس الليندي وهو يحمل سلاحه، بينما رحل بعده نيرودا بفترة وجيزة، وسط معلومات متضاربة بشأن السبب الرئيس لوفاته، وكان لتلك الأحداث في العراق وقع خاص نظراً لتشابه ما حصل، وللفاشيين السحنة نفسها وأسلوب القتل ذاته.
البيت ينمو مثل الناس والأشجار
جرت هذه المقابلة (*) مع نيرودا في بيته، في شهر كانون الثاني (يناير) عام 1970 في منطقة (آيسلا نيغرا = الجزيرة السوداء) وهي ليست جزيرة ولا سوداء إنما ساحل بهيج يبعد عن العاصمة سانتياغو حوالى ساعتين بالسيارة، ولا أحد يعرف كيف، ومن أين، أخذت المنطقة اسمها. يصف نيرودا البيت: "بدأ البيت بالنمو مثل الناس والأشجار".
شهرته عمت العالم حتى أنه قال: أعجبني تمثال يشبه ستالين، ولما سألت بائع الإنتيك في باريس عن ثمنه رفض بيعه لي، ولما عرف أنني من تشيلي سألني: هل تعرف بابلو نيرودا؟ أخبرته بأنني أعرفه حق المعرفة.. أنا بابلو نيرودا، عندها استجاب لرغبتي ووافق على بيعه لي.
طويل القامة وممتلئ الجسم وله بشرة بلون الزيتون، كما تصفه محاورته، وأبرز ما يميزه أنفه البارز، وعيناه البنيتان الواسعتان، حركته بطيئة ولكن ثابتة. وأخبر مستمعيه بأنه يتحدث بوضوح ومن دون غطرسة، ويقيم مع ماتيلد زوجته الثالثة.
لا يكاد بيته يخلو من الضيوف الذين يخدمهم بأريحية نادل محترف، وهناك أنواع كثيرة من قناني الخمور على رفوف الصالون وفي المطبخ، لكنه يفضل الويسكي والنبيذ التشيلي.
جرى الحوار بعد الظهر عندما أفاق الشاعر من قيلولته، وغالباً ما يصحح بروفات كتاب جديد، يساعده أحد أصدقائه، وكان يفضل الكتابة بالحبرالأخضر.
كنا جالسين على مصطبة حجرية بمواجهة البحر، بينما كان نيرودا يمسك بالميكروفون الموصول بجهاز تسجيل، وأثناء حديثه كان صوت الأمواج يشكل خلفية لصوته.
• لماذا غيرت اسمك الأصلي واخترت "بابلو نيرودا"؟
- لا أتذكر بالضبط.. كان عمري، آنذاك، ثلاثة عشر أو أربعة عشر عاماً. كنت أرغب في أن أصبح كاتباً وهذا أزعج والدي لأنه يعتقد أن يصبح المرء كاتباً يؤدي إلى تدمير العائلة وتدميري شخصياً لأن حياتي ستكون بلا جدوى، وكانت لديه أسباب شخصية أخرى، فكان تغييري لاسمي أولى التدابير الدفاعية التي اتخذتها.
بين الرئاسة والكتابة
• هل للأمر علاقة بالشاعر التشيكي جان نيرودا؟
- سبق أن قرأت له قصة قصيرة لكنني لم أقرأ شعره. له كتاب بعنوان (قصص من مالا سترانا) عن الناس البسطاء في ذلك الحي في براغ.. ربما جاء اسمي من هناك، لكنني لا أتذكر بالضبط، التشيكيون يحسبونني واحداً منهم، وأنا أحتفظ بصداقات جميلة مع بعضهم.
• لو فزت بالانتخابات وصرت رئيساً للدولة هل ستواصل الكتابة؟
- الكتابة عندي هي بمثابة التنفس، فهل يمكن للإنسان أن يعيش من دون أن يتنفس.. لا أعتقد أن بإمكاني أن أحيا من دون الكتابة.
• من مِن الشعراء الملهمين الذي نجحوا في الجمع بين السياسة والشعر؟
- مرحلتنا هي حقبة الشعراء الحكام: ماو تسي تونغ وهو شي منه.. ماو يمتع بمؤهلات أخرى، فهو سباح ماهر، بينما أنا لست كذلك. ليبولد سنغور، رئيس السنغال، شاعر عظيم، وإيميه سيزار الشاعر السوريالي، وهو محافظ فورت دي فرانس في المارتينيك.
الشعراء في تشيلي يتدخلون دائماً في السياسة، لكن لم يصبح شاعر رئيساً للجمهورية، لكن في أمريكا اللاتينية كان هناك الشاعر رئيس فنزويلا رومولا غالغوس.
• كيف قدت حملتك الانتخابية؟
- لا بد من وجود منصة.. بينما تصدح في المكان الأغاني الشعبية، وثمة شخص يتحدث في السياسة بشكل صارم، ومن ناحيتي أفضل التحدث للناس بحرية، لأنه أسلوب أكثر شاعرية، وأختتم، دائماً بقراءة الشعر.. إذا لم أقرأ بعض القصائد، فإن الناس سيصابون بخيبة أمل ويغادرون المكان.. بالطبع، هم يحتاجون أيضا إلى سماع أفكاري السياسية، ولكنني لا أحب أن أرهقهم في الحديث السياسي والاقتصادي لأن الناس في حاجة أيضاً إلى نوع آخر من اللغة.
• كيف هي ردة فعل الناس عندما تقرأ قصائدك؟
- إنهم يحبونني بطريقة عاطفية جداً.. ليس بمقدوري الدخول إلى بعض الأمكنة والخروج منها. لدي مرافق خاص لحمايتي عند اكتظاظ المكان بالناس عندما يحيطون بي، وهذا يحدث في كل مكان أحل به.
• لو خيرت بين رئاسة الجمهورية وجائزة نوبل، ما الذي ستختار؟
- لا وجود لسؤال بشأن خياري بين أشياء وهمية.
• لو وضعوا، هنا، على الطاولة، فعلاً لا وهماً، جائزة نوبل ومنصب الرئيس فماذا تفعل؟
- سأنهض وأغير مكاني لأجلس على طاولة أخرى.
• هل تعتقد بأن منح جائزة نوبل إلى صاموئيل بيكيت كان صائباً؟
- نعم، أعتقد ذلك. بيكيت كتب القليل لكنه رائع. جائزة نوبل، أينما تذهب فهي نوع من التشريف الأدبي، وأنا لست من النوع الذي يهتم بنتيجة الجائزة ومن فاز، فالمهم، عندي بشأن الجائزة – إذا كان ثمة أهمية – هو هل تضفي عنوان الاحترام على عمل الكاتب؟
فظاعة الحرب الأهلية
• ما هي أقوى ذكرياتك؟
- لا أعرف بالضبط، ربما هي فترة إقامتي بإسبانيا.. فترة أخوة الشعراء العظيمة، إذ لم أعرف مثل تلك المجموعة الأخوية في عالمنا الأمريكي، كانت مليئة بالثرثرة والشائعات، كما يقال في بوينس آيرس، وإنه لمن الفظاعة أن نشهد جمهورية الشعراء، تلك، وقد دُمّرت أثناء الحرب الأهلية. إنه لأمر جلل أن يقتل فدريكو غارسيا لوركا وميغويل هرناندزعلى أيدي الفاشيين، وآخرون ماتوا في المنفى، والبعض لما يزل في منفاه.
كانت مرحلة من حياتي غنية بالأحداث، في العواطف العميقة، وأسهمت بشكل حاسم في تطور حياتي.
• كتبت قصيدة غنائية للوركا قبل مقتله توقعت فيها نهايته المأساوية..
- نعم، كانت قصيدة غريبة لأنه كان شخصاً سعيداً، مخلوقاً من بهجة. لقد عرفت قلة قليلة من الناس مثله. كان مثال التجسد.. حسنا، دعونا لا نقول النجاح، ولكن محبة الحياة. انه يتمتع في كل دقيقة من وجوده.. شخصاً مسرفاً في إشاعة السعادة. لهذا السبب، جريمة إعدامه هي واحدة من أكثر جرائم الفاشية التي لا تغتفر.
• أنت تذكره كثيراً في شعرك مع ميغويل هرناندز؟
- هرناندز كان مثل إبني.. وشاعراً هو أحد حواريي، بشكل ما، وغالباً كان يقيم في بيتي. مات في سجنه لأنه يملك ما يدحض الرواية الرسمية حول مقتل لوركا.. وإذا كان لدى الفاشيين ما يثبت روايتهم فلماذا، إذن، أودعوه السجن حتى الموت؟
لماذا لم ينقلوه إلى المشفى، قبل وفاته كما اقترحت السفارة التشيلية؟
إن موت هرناندز في سجنه كان، أيضاً، شكلاً من الاغتيال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أجرت المقابلة بالإسبانية ريتا غيبرت وترجمها إلى الإنكليزية رونالد كريست – مجلة (باريس ريفييو).
الحوار طويل جداً (أكثـر من 14000 كلمة) وهذا ما تيسر لي منه، بتصرف، فمعذرة للقراء.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا