التخطي إلى المحتوى الرئيسي

فصل من رواية للراحل كارلوس فوينتس تصدر في سبتمبر


فريدريك في شرفته:

كارلوس فوينتس
ترجمة الفصل: د. طلعت شاهين

التقيت به صدفة، كانت ليلة أكثر من ساخنة، لزجة، مزعجة، مقلقة، واحدة من تلك الليالي التي لا تخفف من حرارة النهار بل تزيدها، كما لو كان النهار يراكم حرارته ساعة بعد ساعة، ليطلقها بعد ذلك دفعة واحدة، عندما يموت المساء، يقدمها، كعروس رصاصية ملطخة، يا لها من ليلة طويلة.

غادرت غرفتي عديمة التهوية، آملا في أن تقدم لي الشرفة شيئا من الرطوبة، لكن لا شيء.كان الليل الخارجي أكثر كثافة من الليل الداخلي، ورغم كل شيء، قلت لنفسي، إن البقاء في الهواء الطلق بعد منتصف الليل، ربما يكون ولو نفسيا، أكثر رقة من البقاء حبيسا في سرير رطب من أثر عرق الجسد، ومخدة ملقاة على الأرض، وأثاث شتوي، متناثر، وحوائط مغطاة بورق مثير للسخرية، لأنه كان موشى بصور لأعياد الميلاد و(سانتاكلاوس) (بابا نويل) غارقا في الضحك. لم يكن هناك أي حمام بالغرفة. هناك كرسي مثير للضحك، إناء ماء فارغ قديم، ومناشف قديمة. قطعة صابون مشرخة بتأثير مرور الزمن.

خرجت مصمما على التقاط الهواء، إن لم يكن طازجا، على الأقل سيكون مختلفا عن هواء الفرن الساخن الراكد في الغرفة.
خرجت بعد أن تخففت من ملابسي.
في الشرفة المجاورة، كان هناك رجل ينحني على الدرابزين وينظر باهتمام كبير إلى الشارع الكبير، المهجور في هذه الساعة. نظرت إليه. باهتمام أقل كثافة من رؤيته الليلية، لم يبادلني النظرة، من يعرف؟ له حاجبان كثيفان يسقطان على حدقتيه. ماذا كان يقول؟ وشارب كث طويل يخفي فمه، فقط ما بين كليهما ـ الحاجبان والشارب ـ ظهرت صلعة عارية تخيلتها كساقين عاريين مشرعين في الهواء. ما هو حليق في هذا الوجه المغطى بالحاجبين والشارب يدفعك إلى فكرة متناقضة ما بين ما هو نقي وما هو نجس، فقط لمجرد أنه خارج عن نطاق العادي، لأن كثافة الحاجبين والشارب، عند هذا الرجل، تبدو القاعدة العامة.
فقط بمجرد رؤيته هناك، في الشرفة المجاورة، ناظرا إلى الليل بهذا الإحساس الغارق في الغياب، شعرت بأن انطباعي الأول، مثل أي انطباع أولي، كان خادعا. وأكثر من ذلك: أنا لم أقُدر هذا الرجل، لم أقدره لأنني تجرأت على رسم صورة مسبقة له دون أن أعرفه. توصلت إلى نتيجتين متعارضتين حول ما كان بداخل هذا الرجل، جاري، ما اسمه؟ ما هي مهنته؟ حالته الاجتماعية؟ متزوج أم أعزب، أم أرمل؟ هل كان لديه أولاد؟ هل كانت لديه عشيقات؟ ما هي لغته التي يتحدث بها؟ ما الذي فعله ليكون خالدا؟ أم أنه راضخ، كمعظم الجميع، للنسيان؟ هل يترك نفسه للحالة المريحة من المهد إلى اللحد، دون أن تكون لديه رغبة في الاستمرار أو أن يصبح خالدا؟ أو إن كان هذا الرجل من البشر، جاري، الذي ينطوي على حياة سرية، ذات قيمة عالية بفضل أسراره، حياة لا يلمسها العالم، حياة خاصة مغلفة بالخفاء لكنها مفيدة، ويمتلك بين جنبيه شيئا ثمينا لكي يكون عليه أن يثبته؟
كنت أفكر في جاري، في الحقيقة، كنت أفكر في نفسي أنا، وإن كانت هذه الأسئلة قد خطرت على بالي فإنني كنت أطرحها على نفسي؟ ولو كان الأمر كذلك، لماذا الآن وفقط في هذه الساعة، في الرفقة البعيدة مع هذا الرجل القريب من وجودي ـ كنت أطرح على نفسي أسئلة عنه وإن كانت في الحقيقة طريقة للتساؤل حولي أنا نفسي؟
فوجئت أسئلتي ببزوغ الفجر. من الليل الذي تجنبته في غرفتي، خرجت إلى فجر بقي في ذاكرتي أكثر من بقائه في مخيلتي. هل كان أقصر من ذكرياتي؟ هل كان الفجر أكثر استمرارية من مخيلتي؟ ترى هل كنت أرغب في أن أنقل أسئلتي تلك إليه، والتي لم تكن لها إجابة وحيدة، إلى جاري، كان الضوء يقترب. النهار يتقدم. لا يؤكده، كان لديّ، للحظة واحدة، إحساس بأنني أعيش فجرا لا ينتهي. لا الليل ولا النهار عادا إلى الظهور فيه. فقط كانت تجري تلك الساعة غير المؤكدة، والتي كنت أعرف أنها عابرة، وتحولت إلى أبدية. كان اليوم يقترب، متجددا ولا علاقة له بنا، أحياء أو أموات، سواء كنا هنا أم لا، خالية الأرض كانت ومكتفية ببقائها الأبدي. لا شيء في العالم غير العالم نفسه. أجهل إن كانت الأرض قد تركت مدارها، وأنها تفكر في ذاتها فقط، أن تعرف أنها كانت “الأرض”، أن تتفهم أنها جزء من نظام كوني، وإن كان الكون نفسه يشك في كونه لا نهائيا، فكرة غير قابلة للتصديق، بل بداية النهاية. واقع آخر. إنها الواقع.
إنه في هذه اللحظة كنت أنا مع جاري كث الشارب، من يتأمل بزوغ الفجر.
الفجر الأبدي، ملأني الإحساس بالرعب. إذا كان النهار لم يطلع رغم أن الليل انتهي، على أي منزلق من الساعات نبقى معلقين إلى الأبد؟ لنبقى. جاري وأنا، حاولت أن أفهم نظرته، غير المرئية تحت حاجبيه الكثين، كان مغلقا عينيه، ربما كان يتناعس، غير مكترث لحضوري الحاد وإن كان حضور مفروضا؟ أو كان ينظر، مثلي أنا، إلى ذلك الفجر البطيء الذي لا يرحم. بلا رحمة: غير مبال بحياتنا، نظرة غير مبالية بحاجتنا إلى الليل والنهار من أجل إصلاح... يا له من موقف؟ نحن نحتاج بالفعل الليل والنهار للاستيقاظ أو تنظيف أنفسنا، وتناول الإفطار، الخروج إلى العمل، لقاء الرفاق والأصدقاء، وتناول طعام الغداء للمرة الثانية، القراءة، النظر إلى العالم، تناول العشاء، النوم؟ العودة المتمادية ـ المصرة ـ لحياتنا، المفروضة من خلال دائرة بعيدة عن سطوتها وهي في كل الأحوال لا علاقة لها بأهدافنا، وغير مبالية تماما بأي شيء من أنشطتنا (أو غائبة عنها).
هل أمتلك أنا الشجاعة للتخلص من التوقيت، والعمل والرغبات وإخضاع نفسي لفجر لا ينتهي يحررني من إي انشغال؟ وربما على هذا النحو تكون الجنة: فجر بلا نهاية يحررنا من أي واجبات، وإن كان بالنظر إلى الرجل الصامت في الشرفة المجاورة، هكذا تخيلته، أيضا، سيكون الجحيم: فجر لا ينتهي أبدا. تحرر أم عبودية. إن الحياة إلى الأبد في فجر هذا العالم. سبي، أم تحرر. أن تكون طائرا يعيش فقط ليوم واحد، أو نسرا أبديا يطير بلا وجهة بحثا عن ما لا وجود له: النهار للطيران، والليل للتخفي. ولا يكون حتى مجرد نيزك، في هذا الساعة المبكرة، ليجعلنا نعتقد أن كل شيء، فجأة، سيتحرك...
هو نظر إليّ من شرفته. نصف متر يفصل شرفته عن شرفتي.
نظر إليّ كما لو كان ينظر إلى غريب، مكتشفا، فجأة، شخصا معروفا لديه، أي أريد أن القول إن جاري نظر إليّ أولا كغريب، وعلى الفور، اكتشف تشابها. قالت لي عيناه أنها تعرفاني، تعرفت فيّ على شخصية منسية. أنا بذلت جهدا، ليس مؤلما إلى حد كبير. أين شاهدت هذا الرجل من قبل؟
لم يبدو لي هذا الغريب قريبا مني جدا؟ معروف جدا، فيما يبدو، كما أنا معروف لديه هو؟
هل قرأت الصحافة؟. سألني فجأة.
لا. أجبته، مفاجئا قليلا بالطريقة الحميمة التي سألني بها وربما بسبب السؤال نفسه.
أرون أزار. قال حينها، كما لو كان يتذكر ما هو محتمل.
ماذا...؟. جذبته أو ربما سألت، لا أعرف...
لقد قتلوه؟ استطاع الهرب؟ هل هو مختبئ؟ هل أخفوه؟. انطلقت أسئلة جاري كالرصاصات.
لا أعرف...، كان ذلك اعتذاري الضعيف.
على الأقل، أنت تعرف أنه قد مات؟. أنهى حديثه قبل أن ينسحب من الشرفة. ماذا تعرف؟
لا شيء، ما اسمك؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الفصل الأول من رواية الكاتب المكسيكي كارلوس فوينتيس الذي رحل قبل أسابيع قليلة، ويعد أحد فرسان جيل البوم في أمريكا اللاتينية، واحد مؤسسي الواقعية السحرية مع جابرييل جارثيا ماركيز الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1982، وماريو فارجاس يوسا الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 2011.

ومن المقرر أن تصدر هذه الرواية في شهر سبتمبر المقبل، تعقبها رواية أخرى تركها الكاتب مخطوطة لدى دار النشر.







تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا