التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ساعات ميتة

ساعات ميتة 
بقلم :إميل غارثيّا ليناريس*
Hemil García Linares
ترجمها عن الإسبانية يوسف يلدا.

على مبعدة بضعة أمتار من حالة الإنتحار، تردد كارلوس قليلاً وقد غرقت قدماه، كما لو كانت جذوع ثقيلة، في الوحل وعشب الهاوية. الى جانب ذلك، أن الشخص المفروض أن ينقذه كان يبكي وتذهب توسلاته مع الريح. بينما كان الفضوليون يصرخون من الأعلى. "إنقذوها!".
"هيا، يا سيد كارلوس!"، قال رجل الإطفاء الشاب من خلفه وتقدم كارلوس، متردداً، بضع خطواتٍ. كان يعتقد (أم كان مجرد حدس؟) أن المشاهد كانت تتكرر مراراً وتكراراً منذ مدة طويلة. تصرفات الصغار الخاطئة، إيجار المنزل، فواتير السيارة، والعمل كسائق تكسي من الإثنين الى السبت، وكرة القدم كل يوم أحد والآم الظهر التي تستمر طوال الليل. والأسوء، مرض السكر الذي تعاني منه زوجته والذهاب لإستجداء موعد طبي من دائرة التأمين الإجتماعي.


 شعر بالخوف بمجرد التفكيرأنه يتطلع في الوجه الذابل للمنتحر، ليس بسبب العذاب، بل بسبب من دوافع الإنتحار. إذا كانت صبية، لربما كانت حامل. وإذا كانت إمراة كبيرة السن، ربما يكون زوجها قد هجرها. أما إذا كانت إمرأة في الخمسينات من عمرها، فقد تكون قد طردت من وظيفتها. وإذا كانت فتاة مخدوعة، لربما بلغها خبر حبيبها الذي سوف لن يعود من خارج البلد، لأنه إلتقى بفتاة غيرها، وربما تدعى ماي براون. 
"سيد كارلوس، إننا على وشك أن نصل"، قال الشاب وكانا قد إقتربا من صخرة بحذر، خشية عدم وضع قدميهما في غير المكان الصحيح ومن ثم السقوط. خطر على باله في لحظة ما أنه يدور في الهاوية، وأن جسده آخذ في التقطع، والألم كان في غاية الشدة، لكن كان هناك إنتعاش غريب لحظة السقوط . وفي نهاية الهوّة لم يعد جسده الواهن يتحمل المزيد من الآلام. وبعد السقوط، ربما يفكر مخّه أنه قد مات فعلاً. كان مخّه قادراً على التفكير لكن لم يعد قادراً على الحراك أو الصراخ! لو كان واعياً لربما لم يعد مهما أيضاً، لأن الجسم عندما يكون جامداً كدمية، يكون مغطياً بالصحف أو ببطانية قديمة والتي تعني النهاية. هل يكون كذلك حقاً؟ 
   "سيد كارلوس، سوف أمسك بها"، قال رجل الأطفاء الشاب وهو يسير بعزم. أما كارلوس، الواقف خلف الفتى، كان يدرك ما سيحدث لاحقاً. فقد عمل بصفة رجل إطفاء عشر سنوات وأنقذ حياة العديد من الناس، إلاّ أنه كان يرتجف. توقف لتجفيف العرق المتصبب من لحيته التي لم يحلقها منذ إسبوع. 
"سوف أرمي بنفسي إن تقدمت خطوة واحدة"، قالت المرأة وهي تغطي الوجه. وعلى رسغ يدها يمكن مشاهدة آثار ندوب قديمة. كانت تبكي حينها بمرارة وقد إحتقنت عيونها المتراخية، كما لو أنها تود الخروج من وجهها تقريباً. "سوف أرمي بنفسي". اللعنة على اللحظة التي فكّر في إنقاذ المرأة. "سوف أحاول مرة أخرى حتى أموت..إيّاك أن تقترب أكثر".
"سيد كارلوس، ساعدني يا رجل!"، هتف الفتى. كان كارلوس خبيرا في التحدث مع الذين يقدمون على الإنتحار، أو في تخدير عقولهم: "فكّر في أطفالك"، "أمك لن تستطيع تحمّل غيابك"، "زوجتك تنتظرك في المنزل"، وهكذا كان المنتحرون يهدأون شيئاً فشيئاً، حيث تتلاشى العدوانية التي يبدأون بها، وكما هو شأن الأطفال المهجورين، يصرخون "إنقذوني"، ولن يكون ذلك الذي ينادون به إنقاذاً جسدياً، بل توسلاً حزيناً ومدمياً للبحث عن الخلاص. 
كان كارلوس على وشك أن يتحدث الى المرأة، غير أنها كانت تنظر الى الهاوية بشكل جانبي، مرتبكة ومنهكة. كان عليه أن يرمي بنفسه بإتجاهها، ورغم أنه كان لا يزال مرتجفاً ومتأخراً، فقد إندفع بإتجاهها.أمسك بالمرأة من كتفيها وحالما نظر إليها أدرك أنها كانت في مأزق.
"برافو، كارلوس"، هتف الشاب وهو يغطي الفتاة بذراعيه. "سوف نساعدك"، قال له.  جلس كارلوس على تلة، وهو يتنفس بصعوبة. كانت الريح تعصف بقوة، بينما راح الفضوليين يصفقون. الحدس هذه المرة – التأكد من عدم جدوى إجراءاتها- جاء مثل عاصفة غير متوقعة. نظر كارلوس الى عيني الفتاة. شعر بالخوف عندما أدرك أن المشاهد تتكرر دائماً: تصرفات الصغار الخاطئة، إيجار البيت، تكاليف السيارة، العمل كسائق تكسي من الإثنين الى السبت، وكرة القدم كل يوم أحد، والآم الظهر. والأسوء، مرض السكر الذي تعاني منه زوجته. وفوق ذلك كله، عيون المنتحرة هذه التي يعرفها ايضاً، والتي رآها مرات عديدة. كان مقتنعاً تماماً، أنها ستعيد المحاولة مرة أخرى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*إميل غارثيا ليناريس:  من مواليد عام 1971 ليما، بيرو. صحفي وكاتب. أستاذ النظام المدرسي العام في فرجينيا. نشر مقالاته في صحيفة (الكوميرثيو) البيروفية، وفي صحف أمريكا اللاتينية الصادرة في الولايات المتحدة الأمريكية. ظهرت قصصه القصيرة في العديد من كتب القصص المختارة في المكسيك، وأمريكا، والأرجنتين. فاز بالجائزة الأولى ضمن المسابقة الدولية للقصة القصيرة عام 2008 في الأرجنتين. وحصل على المركز الأول عام 2010 ضمن جوائز الكتاب اللاتيني الدولي في نيويورك، من بين جوائز أدبية أخرى. منذ العام 2000 يقيم في فيرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية. صدرت له مجموعة قصصية بعنوان (قصص من الشمال، حكايات من الجنوب)، والتي تدور أحداثها حول الهجرة، والإرهاب، والحرب، والتمييز العنصري. في 2011 صدرت أول رواية له بعنوان (سبعون يوماً لمغادرة البلاد).


عن موقع إيلاف

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا