فكثرت الدراسات عن قرطبة وإشبيلية وغرناطة، بالإضافة إلى عدد من المدن الأخرى خصوصا تلك التي اتخذها ملوك الطوائف عواصم لممالكهم. لكن في المقابل لم تلق مدن أخرى إلا القليل من الاهتمام، ناهيك عن القرى والبوادي الأندلسية، رغم أدوارها التاريخية مهمة.
فكتاب ' الحواضر الأندلسية ' لمؤلفه ألفريدو طوريس بالباسA.T Balbas ، والذي يعد من أهم وأشمل الدراسات حول مدن وحواضر الأندلس، لا نجد فيه من معلومات حول كثير من المدن الأندلسية إلا أسطرا قليلة مبعثرة هنا وهناك. والسبب هو اعتماد مؤلفه على الآثار العمرانية واللقى الأثرية كمصدر وحيد لهذا البحث الذي يقع في مئات عديدة من الصفحات. لكن السنوات الأخيرة عرفت ظهور أبحاث رائدة قدمها باحثون متميزون اختاروا أن يتعمقوا في تفاصيل الحياة الحضرية الأندلسية، رغم قلة المصادر المكتوبة، فاستغلوا مصادر جديدة (كالدراسات الطوبونيمية) واعتمدوا على مناهج مستحدثة (كالتاريخ المجهري).
إن العمل الأكاديمي الذي أقدمه في هذه السطور، هو كتاب 'عندما كانت مربيا أرض قرى' للباحث الإسباني الشاب والمتميز بيرخيليو مارتينيث إينامورادوV.M Enamorado، الحاصل على دكتوراة في التاريخ الوسيط من جامعة مالقة، والذي تبلغ حصيلته العلمية المطبوعة 18 كتابا وحوالي 200 مقالة تتناول أغلبها تاريخ الأندلس. أما الكتاب موضوع هذه المقالة فقد نشر سنة 2009 من طرف كل من الأكاديمية الملكية الإسبانية للفنون الجملية وبلدية مربلة، وبدعم من عدد من المؤسسات الأندلسية، وهو يقع في 389 صفحة من القطع الكبير.
يضم الكتاب 12 مبحثا، تتناول جميعها تاريخ مدينة مربيا الإسلامية، وعلاقتها بأحوازها خلال العصر الوسيط إلى حدود استيلاء القشتاليين على المنطقة في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي.
يبدأ الكتاب بمقدمة مختصرة، تطرق الباحث فيها لظروف التأليف وأسبابه وللجوائز التي حصل عليها كتابه هذا، الذي يعد حلقة من حلقات مشروعه التاريخي القائم على أساسا دراسة منطقة ' ساحل الشمس '(Costa del Sol )، الواقعة في أقصى الجنوب الإسباني، والمتميزة بوجود الكثير من المعالم والمآثر الإسلامية، فقد استمر الحكم العربي- الإسلامي للمنطقة إلى حدود سنة 1492 تاريخ استيلاء القشتاليين على مدينة غرناطة عاصمة بني الأحمر.
افتتح الباحث كتابه بمبحث أول، تناول فيه بالنقد والتحليل مجمل الكتابات الإسبانية التي حاولت أن تؤرخ لمربلة الإسلامية، وخلص إلى أن الاهتمام بتاريخ الساحل الجنوبي في تزايد مستمر، بسبب الطفرة الاقتصادية والعمرانية التي تعرفها المنطقة منذ الثمانينات. أما المبحث الثاني فقد خصصه للطبونيمية مربلة، فحاول تسجيل مختلف وجهات النظر التي حاولت تفسير اسم مربلة. أما المبحث الثالث فقد خصصه لجغرافية وطبونيمية حوز مربلة، مسجلا أسفه للدمار الذي لحق بمآثر المنطقة، بسبب التوسع السياحي والعمراني الذي غير معالمها، واعتبر أن لا مناص من اللجوء إلى الوثائق المكتوبة بمختلف أنواعها، سواء منها المسيحية أو الإسلامية، للوقوف عند تاريخ هذه المنطقة التي شهدت الكثير من التقلبات والهجرات السكانية. في حين خصص المبحث الرابع للحديث عن الحدود الإدارية والجغرافية للمنطقة، والتي تتضارب المصادر العربية في انتمائها الإداري، فبعض المؤرخين القدماء جعلوها تابعة لكورة مالقة، في حين أن بعضها الأخر يضمها لكورة رية.
وفي المباحث الخامس والسادس والسابع، رسم المؤلف وبالاعتماد على الوثائق العربية، وخصوصا كتاب 'نزهة المشتاق في اختراق الآفاق' للشريف الإدريسي، صورة حضرية لما كانت عليه مدينة مربلة الإسلامية، التي لم يبق من آثارها الشيء الكثير.
أما في الفصول الأخيرة من الكتاب، فقد انتقل بنا الباحث للعصور الأخيرة من تاريخ مربلة الإسلامية، مركزا على التطورات التي كانت المنطقة مسرحا لها، خلال عصر بني نصر، لهذا ركز في المبحث الثامن على حرب المضيق(La Guerra del Estricho)، معتمدا بالأساس على الدراسة القيمة التي كتبها ميجيل أنخيل مانثانو M.A Manzono ، والمعنونة بـ 'التدخل المريني في شبه الجزيرة الأيبيرية ' (intervenciùn de los Benimerines en la Pen'nsula). أما في المبحث التاسع فقد سلط الضوء على خطة القضاء في مربلة في عهودها الإسلامية المتأخرة، من خلال تتبع سير بعض القضاة الذين احتفظت لنا بعض المؤلفات العربية بتراجمهم. ليعود في المبحث العاشر ليتحدث عن معركة الوادي الأخضر أو الخزائن، والتي تضاربت حول موقعها الآراء، دون أن يخلص إلى رأي قاطع يحسم الخلاف. وفي المبحث الحادي عشر توقف عند ما عرفته مربلة وأحوازها من تطورات خلال العقود الأخيرة من القرن الخامس عشر، وهي التطورات التي انتهت باستيلاء القشتاليين على مملكة غرناطة برمتها. وخصص المبحث الأخير للغزو القشتالي لمدينة مربلة ومقاومتها الشجاعة للغزو القشتالي، ذاك الغزو الذي أنهى تاريخ مربلة الإسلامي وبدأت معه مرحلة جديدة امتدت لقرون طويلة، شهدت فيه المدينة وناحيتها تراجعا شمل كل الميادين، حيث فرغت المنطقة من السكان، واختفت القرى.
يشكل هذا الكتاب محاولة رائدة لإعادة رسم الملامح المجالية (المجال بمعناه الجغرافي)، والحضرية لمنطقة أندلسية مهمشة، لم يتحدث عنها الإخباريون والمؤرخون القدماء إلا لماما، كما أن جل معالمها العمرانية والأثرية تعرضت للضياع، إما بسبب اضطرابات القرون الماضية، أو بسبب الانفجار الحضري الذي عرفته في العقود الأخيرة. فلجوء الباحث إلى مصادر بديلة من قبيل الدراسات الطوبونيمية والميكروطوبونيمية، بالإضافة إلى كتب التراجم، والرحلات العربية، والوثائق القشتالية، هدفه سد النقص الواضح في المصادر التي يمكن استغلالها في التأريخ للبادية الأندلسية بشكل عام، ولمنطقة مربلة بشكل خاص. ولا شك أيضا في أن كتاب 'عندما كانت مربلة أرض قرى' يشكل إضافة نوعية للبحث في تاريخ الحواضر الأندلسية، لكن يحق لنا أن نبدي بعض الملاحظات التي لا يمكنها بأي حال من الأحول أن تمس من قيمته وأصالته، حيث يمكن أن نسجل ضعف اهتمام المؤلف بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى تضارب استنتاجاته في بعض الأحيان مع ما ذهب إليه المؤرخون القدماء، واكتفائه في بعض الأحيان بسرد ما ذهب إليه غيره من الدارسين دون أن يقدم للقارئ رأيه بشكل واضح، ومبالغته في تفسير أسماء بعض الأماكن، فهو كثيرا ما يستند على علم الطوبونيمية في تفسير أسماء بعض القرى والمواقع، لكنه يلجأ إليه في أحيان أخرى لاستخلاص معطيات تتعلق بالتاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للمنطقة، وهذا ما يطرح إشكالية حقيقية، فأسماء الأماكن كثيرا ما يطالها التغيير والتحريف، فكيف يمكن الاعتماد عليها - خصوصا إذا لم تكن مدعومة بمصادر مكتوبة أو أثرية - في كتابة التاريخ السياسي والاقتصادي والاجتماعي؟ بمعنى آخر ما موقع الطبونيمية في البحث التاريخي؟ وهل يمكن الاستئناس بها أم طرحها كبديل للمصادر المكتوبة والأثرية؟
في الختام، بقي أن أشير إلى أن هذا الكتاب قد حصل على ميزة الشرف، لجائزة مالقة للأبحاث، فرع العلوم الإنسانية لسنة 2008، وهذا اعتراف بقيمته العلمية، وتنويه بالمشروع التاريخي لصاحبه، وهو جهد أكاديمي يعبر عن نوعية الدراسات الإسبانية المهتمة بالتاريخ الأندلسي، والتي يظل معظمها للأسف في غير متناول القارئ العربي، بسبب غياب مشاريع ترجمة حقيقية في العالم العربي، باستثناء بعض الجهود القليلة التي تتم هنا وهناك.
باحث من المغرب
عن القدس العربي
تعليقات
إرسال تعليق