التخطي إلى المحتوى الرئيسي

موراكامي: كتابة الرّوايات تعني ملاحقة الاحتمالات

ترجمة: توفيق البوركي


نشرت جريدة الباييس في ملحقها الأسبوعي في الفاتح من شباط/فبراير الماضي، حوارًا مطوّلا وحصريًّا مع الكاتب الياباني الأكثر مبيعًا عالميّا والمرشّح الدّائم لجائزة نوبل في الأدب في السّنوات الأخيرة هاروكي موراكامي (كيوتو، 1949) وذلك أثناء وجوده بالإكوادور، في أوّل زيارة له لأمريكا الجنوبيّة والتي جاءت بمناسبة الاحتفال بمرور قرن على بدء العلاقات بين اليابان والإكوادور. أجرت الحوار الصحفية راكيل غارثون التي اقتنصت هذه الفرصة النّادرة لتدخل عوالم موراكامي للحديث عن آخر رواياته “مقتل قائد الفرسان” وأيضا الخوض في مواضيع عن سلطة الخيال، وسباقات المارثون والشّغف بالموسيقى والزّواج والشّيخوخة والرّغبة في اكتشاف أشياء جديدة.
وهذا نص الحوار:

س: بدأت رواية مقتل قائد الفرسان بحلم مزعج: فنّان يجد نفسه ملزمًا برسم صورة شخصيّة لرجل بلا وجه. هكذا خطرت لك فكرة الرواية؟
ج: لا، فقد أضفت هذا الاستهلال. أول ما خطر لي هو المشهد: منزل قريب من البحر، على حافة قمّة جبل. يظهر جليّا من الأمام لكن في الخلف هناك دائمًا سحب سوداء كثيفة تحجبه عن الأنظار. كان هذا ما كتبته في البداية وتساءلت عما سيحدث لأنّه لم تكن لدي فكرة. يحكي البطل عن زوجته التي انفصل عنها بعد أن أخبرته بعدم رغبتها في مواصلة العيش معه. فجال اليابان على متن سيارته وحيدًا وحائرًا، دون أن يفهم ما الذي حصل. بعد أربعة أشهر أعاره صديق له هذا البيت.
س: في كلّ رواياتك تقدّم أبطالاً يمرّون من أزمة ما بعد الثّلاثين. ما الذي تعنيه لك هذه الفترة العمريّة بالذّات؟
ج: في رواية يوميات طائر الزنبرك، وهي رواية طويلة كتبتُها في فترة التسعينات، حكيت فيها عن ثلاثيني تغيّرتْ عاداته اليوميّة بعد اختفاء قطّه في البداية ثمّ زوجته فيما بعد. بدأتُ هذه الرواية بضمير الغائب ثم عدتُ لضمير المتكلم لأنني أحسست أنّ ما أود التّعبير عنه يتطلّب حميميّة أكبر. لا أدري سبب اختيار هؤلاء الأبطال. ربما هذا الميل الشّخصي في البحث عن المعنى في ظل الحيرة والتّردد هو ما يهمّني، كما لو أننا في هذا العمر ندرك معنى حياتنا. سيرورة الامتلاك هاته هي ما يشدّني. فالإنسان في هذه المرحلة لم يعد في قمّة الشباب لكنه ليس هرِما أيضًا. إنه حرّ وهش في نفس الوقت.
س: مع ذلك، هذه الشّخصية لا تحسّ بحرّية أكبر. أليس كذلك؟
ج: أزمة هذه الشخصية جذرية: فهو يرسم بورتريهات ويعيش مما يجنيه منها، لكنه لا يعلم بالضبط ما هو عمله. إنه يصارع من أجل أن يفهم ما يودّ التّعبير عنه، إنه بحث حاسم. الرواية تحكي أيضا عن اكتشافه كفنّان وحالته العقليّة كمبدع.

س: ما هي الألوان التي قد تستعملها لرسم صورتك الشّخصية؟
ج: ألوان؟ عندما أكتب أفكّر في الموسيقى، ولا أرى أي لون. ربّما هي طريقة لأستعملها كلّها. شيء مثل هذا يحدث مع الأحلام. أنا لا أحلم أو لا أتذكّر أحلامي لكنّ رواياتي تعجّ بها، فأنا اتخيّلها. صديق لي يعمل طبيبا نفسيا تعوّد أن يقول لي: “أنت تكتب، وليس عليك أن تحلم”.
س: هل عرضت نفسك على طبيب نفسي ذات مرة؟
ج: لا لم يحصل ذلك. لا يهمّني التحليل النفسي لكن كان عليّ أن أسأله لماذا كان يعتقد أنه ما من داع لأحلم. للأسف فقد توفيّ منذ سنوات.

س: هل تحنّ لحياتك السابقة على دخولك عالم الأدب، في الفترة التي كنت تدير فيها ناديًّا للجاز إلى جانب زوجتك؟
ج: أفتقد ذلك العالم الصّغير، والموسيقيين أيضا لكن منذ شهر أغسطس/غشت الماضي أقدّم برنامجًا موسيقيًّا على أثير إذاعة في طوكيو. أنا منسق موسيقى (دي دجي)، وقد استعدت الأمور المسليّة في تلك الحقبة. أختار الموسيقى: روك، بوب، جاز وأتحدّث عنها وعن الأدب. كنت متشككا لكن يوكو شجعتني قائلة: ” تستطيع فعل ذلك، ستكون منسّق موسيقى رائع”. وأنا أستمتع بذلك الآن، إنّه إحساس بالمتعة الخالصة.

س: بعدما نشرت روايتك الأولى سنة 1979 غيّرت من عاداتك اليوميّة: تركت السّهر وبدأت الرّكض يوميًّا… هل تودّ من قرّائك أن يقرأوا ما تكتب وهم في كامل لياقتهم الجسديّة؟
ج: {يضحك} لا، كتابة روايات طويلة كالتي أكتب تتطلّب مجهودًا متواصلاً ومنهجيّاً، فالأمر ليس هيّنًا. أكتب بإحساس حقيقي أقدّم معه كلّ شيء. أتدبّر طاقتي عند الكتابة كما أتدبّر نفسي في سباق المارثون، وأحاول أن أقدّم دائمًا شيئًا جديدًا وأنتظر من القارئ فقط أن يستمتع بقراءة الكتاب، فهذه مهمّته.

س: كنت قد سألتك عن الكيفية التي تثير بها قصصك جميع الحواس، نجد فيها الموسيقى والجنس والأكل
ج: الأشياء الماديّة محببة إليّ. عندما أكتب عن شخص يشرب جعّة فأنا أنتظر من القارئ أن يطلب واحدة. أريد لأدبي أن يكتسي هذا البعد لأنني أثق في ردّ فعل الجسد كشيء أصيل يصعب التّحكم فيه، وبروزه بروزه في صالح القصّة. عندما تمرض شخصية في الرواية أودّ لو أنّ القارئ يعيش نفس الأعراض. وهذا هو الهدف من القصّة.

س: كتبت عن الوحدة، عن العنف، عن الجنون. أي من هذه الأمور يشكل تحديا لك؟
ج: التّحدي بالنّسبة لي هو أن أجعل القرّاء يضحكون، لا أن يبتسمون. أتحدث عن الضحك الصّاخب، فالكثير من اليابانيّين يقرأون رواياتي واقفين في الميترو أو في القطار في طريقهم إلى العمل، والناس ينظرون إليهم وقد يسبّب لهم الأمر إحراجًا لكنّني أشعر أنّني قد حقّقت ما أصبو إليه.

س: لِمَ يكتسي هذا الأمر أهميّة بالنّسبة لك؟
ج: الضحك والبكاء من المشاعر الأكثر شفافية، لكن من السّهل أن تجعل أحدهم يبكي. عندما تضحك يرتاح انتباهك وتعلن عن حضورك هناك، فبين ما تحكيه الرّواية وبين ما تحسّه توجد نقطة التقاء، إنّها الإنسانيّة متجسدة. يعجبني الوصول إلى هذا الحيّز المشترك. أنا كاتب ولي أفكار وآراء أريد التّعبير عنها، لكن من دون هذا المستوى المحسوس من ضحك وبكاء، أرى صعوبة في إيصال ما أودّ التّعبير عنه.

س: مينشيكي المليونير المتوحِّد، الذي يذكرنا بغاتسبي في هذه الرواية، لم يفكر في الأبوّة إلاّ حين علم أنّ ماري قد تكون ابنته. كيف كانت تجربتك مع هذا الموضوع؟
ج: عفوا؟
س: ليس لديك أبناء
ج: لا.
س: ألست نادمًا؟
ج: {صمت ل 30 ثانية قبل أن يجيب} لا، لم أندم كثيرًا بخصوص هذا الأمر، لكن عندما كتبتُ الرّواية فكّرت في احتمال أن يكون لي ولد. أردت أن أتخيّل الأمر كما حصل لبطل الرّواية، أن تكون رفيقتي الأخيرة قد أنجبت طفلة وأنا لم أكن أعلم بالأمر طيلة سنوات. هذا الاحتمال قائم لكنه بعيد الحدوث؛ فكتابة الرّوايات تعني ملاحقة الاحتمالات. قد تكوني اخترتِ شيئًا في عمر الحادية والثّلاثين وهو الذي قادكِ إلى هنا. فهذا ما أنتِ عليه. لكن لو اخترتِ طريقا مغايرًا لكان الوضع مختلفًا. استعمال تلك الاحتماليّة هو لعبة التي يقوم عليها الخيال. أرى أنّ ما أكتبه هو ملاحقة لتلك الحيوات المختلفة. جمينا نحيا داخل ما يشبه قفص، وهذا القفص هو ما يُفترض أن يكونه الشخص ذاته. وأنا ككاتب خيال أستطيع أن أجعلك تغادر القفص وتتحرّر. وهذا ما أقوم به في جميع الأحوال.
س: الفرار؟
ج: أريد عيش أناي البديلة. هل أنا هو بطل رواياتي، أم هو تلك الشخصية الأخرى مينشيكي؟ قد أكون أنا البطل، حين أوظّف أشياء خاصة بي في تكوين الشّخصية، لكن هذا يظلّ مجرّد احتمال. عمل الروائي هو أن يحلم مستيقظًا، إنّه شيء رائع وأنا أستمتع بهذا منذ أربعين سنة وأعتقد أنني قادر على المواصلة لعشر سنوات أخرى. في الوقت الذي لا أكتب فيه قصصا، أكتب مقالات أو أنجز ترجمات. أكتب بأيّ شكل ويوميًّا، وإن مرّ يوم دون كتابة فهو ليس يومًا جيّدًا.

س: ما هو شعورك ببلوغ عامك السّبعين؟
ج: لا أشعر بأيّ إحساس خاصّ ولا حتّى بالنّدم. ارتكبت أخطاءً كالآخرين لكن ما حصل قد حصل. لا مفرّ من البراءة وفي هذا الأمر أنا شخص مؤمن بالقدر. سألتني إن كنت نادمًا على عدم إنجاب أبناء. بكلّ بساطة هذا ما كان ولا أستطيع شيئا حيال ذلك. أتقبّل المسألة وربّما هنا قد أكون مختلفًا عن الآخرين. منذ سلّمت بالأمر، أعيش لأكتب رواياتي وهذا هو الأهمّ.

س: هل تُسلِّم أيضا بمخاوفك؟ وما الذي تخشاه؟
ج: أنا في طريقي إلى الشيخوخة، ولا أعلم كيف هي وكيف سيكون الإحساس بها، فهي أول تجربة لي. {يضحك} لكن كلِّي فضول لمعرفة ذلك وهذا أقوى من الخوف. أود أن أعرف ما سيحصل لي. شاركت في سباقات المارثون طيلة 36 أو 37 عامًا لكن مع تقدمي في السن، ساءت الحال وأصبحتُ أكثر بطء في كل مرة. كل ذلك لا يهم، وأحبّ أن أعرف إلى أي مدى سأستمر بالرّكض والاستمتاع به. أصدقاء كثر تركوا المضمار لأنّه يشكل مصدر إحباط لهم. الأمر مختلف بالنسبة لي، إنّها الحياة وأحب أن أعرف كيف تسير وما الذي سيحصل معي. كل هذا يثير حماسي.

س: بعض قصصك تم تحويلها إلى السّينما. كيف تنظر إلى الآخرين وهم يحكون قصصا أنت كاتبها؟
ج: لم تعد قصصي وهذا يسبب لي عدم الارتياح. أحب السّينما لكن أفضل أن أبقى بعيدا بخصوص مما يُنجز انطلاقًا من قصصي.

س: ماذا عن الفيلم الأحدث “احتراق” لمخرجه لي شانغ دونغ، قالوا عنه أنه ينقل “غضب جيل الألفية”. هل تشاطرهم الرّأي؟
ج: لم أشاهد الفيلم. عندما كتبت قصّة احتراق الحظائر، كان أولّ ما خطر لي هو العنوان، وتخيلت أيّ نوع من القصص يليق بهذا العنوان الذي ظلّ يلاحقني. وظهر شابّ على متن سيّارة مستوردة، وكان يقوم في كل شهرين بحرق حظيرة أجنبيّة، ويقوم بسرد الواقعة على كاتب بينما يدخنان لفافة حشيش. وقد أبدعتُ قصّة استطاعت ملئ تلك الصورة. لم أكن أسعى لتقديم تفسير لا للغضب ولا للعنف. الأمر بالنّسبة لي لا يعدو أن يكون مجرّد كلمات لا غير كما هو الحال دائمًا.

س: هذه القصّة تقع ضمن المجموعة القصصيّة “الفيل يتبخّر”، وقد جاءت حافلة بالغموض والحيرة. هل تسحرك الأشياء الغريبة؟
ج: الحياة غامضة، وربما هناك أشياء أحكيها تبدو غريبة للآخرين، لكنها طبيعيّة بالنّسبة لي. فمثلاً أن تتقمّص روح وجهًا داخل لوحة أو أنّ هناك شخوصًا مشتّتة الظّلال، فهذه أفكار عاديّة في حياتي، مجازيًّا أتحدّث. كراو أفكّر دومًا على مستوى القصّة: كلّ شيء ممكن الحدوث. يعيش الأطفال هذا الحدث ببساطة، عندما كنتِ طفلة وتقرئين في كتاب أنّ شخصًا يمر عبر الجدار، تجدين المسألة عادية. أما البالغون فيقولون: “هذا غريب”. أنا شيخ تقريبًا لكن ما زلت أعتقد أن بإمكانكِ المرور عبر الجدار وأرجو أن يصدّقه القارئ أيضًا.

س: موضوع الحبّ والزّواج دائمي الحضور في قصصك. ما الذي يجعلهما بهذا التّوهج؟
ج: لا تهمّني الرّوابط الأسريّة بقدر ما يهمّني الكشف عن العلاقة بين رجل وامرأة. إنّها علاقة خاصّة، وربّما هي الأهمّ. إذ ليس بإمكانك أن تختار من يكون والداك أو أبنائك لكن تستطيع أن تختار رفيقة حياتك وعليك أن تكون مسؤولاً عن هذا الاختيار. أنا متزوج بيوكو منذ 47 عامًا، وهي بالإضافة إلى ذلك القارئة الأولى لرواياتي. لِمَ اخترتها؟ لا أعلم وغالبا ما أفكّر في الأمر لكن دون أن أعثر على جواب.

س: كانت الثّقافة الأمريكيّة حاسمة لجيلك. ما رأيك في المشروع الذي يقوده ترامب؟
ج: كنت مراهقًا في فترة السّتينات، وحينها كانت الثّقافة الأمريكيّة مثيرة. فقد حدث حينها كلّ شيء: ظهر الجاز والروك والأدب والبوب، وقد تشرّبت كلّ ذلك وأنا ممتن لم قدّمته لي، لكن هذه الثقافة لم تعد أكثر إثارة عما كانت عليه.
أهتم بالسياسة لكنّي كاتب قصص خياليّة لذا لا أدلي بتصريحات ذات صبغة أخرى.

س: هل أنت متفاجئ من نجاحك العالمي؟
ج: حبّذا لو تفسّروه لي! حدث هذا في العشرين سنة الأخيرة، وهذا أمر يشعر بالرّضى، لكن نفس الشّيء حصل مع كتّاب آخرين. بالنّسبة لي ما زلت أسير على نفس المنوال: أكتب في الصّباح لأربع أو خمس ساعات العدد نفسه من الصّفحات، وعندما أغادر مكتبي، فكلّ ما أفكر فيه هو المسار الذي ستقودني إليه هذه القصّة، ولهذا السّبب أعود للكتابة في اليوم الموالي.

س: أخبرني صديق ياباني أنهم يعدونك أسطورة حيّة في وطنك. ما هو شعورك حيال ذلك؟
ج: {يضحك} حسنًا، ما زلت لم أصل بعد إلى الشّيخوخة المتقدّمة. عندما صرت كاتبًا، لم أقم قط بعمل آخر لعشرات السّنين. لم أتعوّد الظهور في الأماكن العامّة ولا أدلي بتصريحات صحفيّة، ولا أظهر على شاشات التّلفزيون أو على أثير الإذاعة. الكتابة هي كلّ ما أقوم به. تركت بلدي لسنوات طويلة وعشت في الولايات المتّحدة الأمريكيّة وأوربا، وفي اليابان لا يعرفني الناس كثيرًا.
وأنا في عمر 69 شعرت أنّها فرصة مواتيّة للبدء في تقديم شيء جديد، فقررت أن أصير منسّق موسيقى، وأفترض أنّ الأمر قد يَنتجُ عنه فضول بل وغموض أيضًا، لكن أن أُوصف بالأسطوري فهذا يبدو مبالغًا فيه.

س: هل تعلم أنّ اسمك دائم الحضور على قوائم جائزة نوبل؟
ج: الأكاديمية لا تنشر أسماء المتأهّلين إلى القائمة النّهائية، وبالتّالي فالأمر لا يعدو أن يكون من قبيل تكهّنات النّاشرين، وهذا لا يعنيني. أمّا تتويج ديلان وايشيغورو فقد أسعدني لأنّني أقدّر أعمالهما.
الكتابة بالنّسبة لي كالهواء وأنا أستمتع باللّذة الخالصة والسّعادة الغامرة اللتّان أجدهما في الكتابة، وهذا هو هدف حياتي. أنا سعيد بذلك والباقي لا يهمّني كثيرًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لقراءة المقابلة الأصلية بالإسبانية (اضغط هنا)


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا