التخطي إلى المحتوى الرئيسي

أُذُن

قصة: ماريو أنخل كينتيرو
ترجمة: شادي روحانا


لم يأت الصيف في هذه الأيام. هذا ما تُعلنه السنابل الأرجوانية، والأخرى الصفراء، والأوراق البرتقالية اليابسة والعملاقة. هي لا تزال شريدةً تلك السماء، تلك التي تنعم علينا بالضوء الأخضر الأبيض. ها هو يهطل من بين غيومها. أمشي ملاحقاً نفسي، بل أركض تحت عتمة البلاط الرمادي.
أمّا هو، فالأسلوب الذي يتبعه بالركض لا يُوحي بدعسة القدمَين، بل هو أشبه بصوت الـ"تك" عند عصفور القرقف. الـ"تِك، تِك- تِك، تِك، تِك- تِك"، وهكذا دواليك، قرقفاً بقرقفٍ. يصرخ بصوتٍ أخضرٍ مرٍّ لا يسمعه أحد. لقد ضاع بين ضجة المارّين والباقين.

تتحوّل صرخته إلى ركضٍ، ويتحوّل الركض من السير على قدمَين إلى صوت يصدى، وتتحوّل الصرخة إلى صرخة مكتومة، أي إلى بقعة، إلى ذراع تمرّ، ركضاً، من عليّ. ممارسة الركض هذه هي ممارسة أفقية، وأشعة الشمس تصقل من الطرف الآخر.
ظلال الشعر والقرف تتقعّر في وجهه، وفي أطراف ركبتيه، حيث يتكرمش بنطاله فاقد اللون، وفي مفاصله. ذلك السيل الطيّب من اللعاب والمستنقعات والعرق يجعل البرد يتحلّى بالثوب الخانق، ويجعل النهار يتحلّى بثوب من الأوراق الرطبة. يرتدي معطفاً حاجباً للصوت. الصوت يركض وأنا أركض معه. الصوت يمرّ من فوق لحم الكائنات. بين غصن وغصن، طيور سوداء. هناك من، هناك إلى. يصرخ بين قهقهة وأخرى: عليّ الاختباء بين الأخضر الرطب!
العصافير للشجر كالشوارب للأفواه: ترسم الابتسامة على وجه الأخضر. يقف فجأة. ينظر إلى كساء من الغيوم العالية العالية، البعيدة البعيدة، ويركض من جديد على طول الخطّ الأبديّ في المستطيل الأخضر.
هناك حديقة مصطنعة، ضيّقة، زرعوها هناك منذ القدم واستحمت حديثاً. يمشي في وسطها، في يومٍ من أوراق المانغا، على طول مسلك تصطفّ على جانبيه الحصى والمستنقعات ونرجس يصرخ بالصفار. يراها هناك، وهو يمشي، معلّقة على أغصان شجرة الجوافة: الأجربة الثلاثة والطنجرة المحشوّة بالطعام.
طنجرة ولقت غطاها، وتغيب القطة وتلعب الفارة.
كالناعم وسط الخشونة، كقشرة حبة المانغا على الشجرة الداكنة، يتمكّن من سرقة دمية القماش وقميصين وجدهما داخل الأجربة، ويأخذ معه الطنجرة، ويهرب، بسرعة. من شدّة حذاقتهم لم ينبهوا له. لكن، على قول المثل، الطعام من ذهب. لقد رأوا شيئاً يتحرّك بين أوراق الشجر، كان على شكل صورة رقمية لبصمة الأصابع. رأوا الغيمة الخضراء وهي تتّسع. لكنّهم، وهم يقتربون من موقع الجريمة، بالكاد يجدون قطة حائرة تتسلّق غصناً لتبحث فيه عن عشّ ضائع.
أما هو، فيستلقي على الأسفلت الطازج في رطوبة بيته الآمن، المغلق بورقة مزّقها من علبة كرتون.
هو صحيح اللعاب غلّاب، يغنّي لنفسه. الجوع كافر والأرزّ كافر. في موقعه، تحت الجسر الذي يعتمره كالطاقية، الشمس تغرب عرقاً. لكن لا يزال هناك متّسع من الوقت للغروب. يلتهم البيضة المسلوقة، كالشمس، في الخفية. قرص يصبغ الأخضر، آخذه نحو الصفار، نحو الحرّ العاري. الألوان، في هذه الساعة، تتلطّخ بوتيرة أسرع.
تغريدة بتغريدة وبعيون دامعة، حمراء. في ساعة الزحمة، كمشة بنيّة تسيل عند قدميه. يلتقطها بيديه، يلحسها، ويخرج من فضاء ظل الجسر كالطير الجريح، باحثاً عن شجرة. لكنّه لا يريد أن يختار أي شجرة. يتوقّف عن الحركة، يشلحه دون اكتراث. يفرج عن مؤخّرة ناعمة وسمراء. إنها لمؤخّرة أنيقة، هادئة، تلغي صوت قرع طبول الأضواء حوله. يتّكئ ظهره على الشجرة الحلزونية في وسط الأذن العملاقة بالضبط. على يساره: شجرة عرف الديك بتيجانها الحمراء التافهة. على يمينه: حصان نحيف، لونه بين رمادي وبنّي، يرعى العشب الأصفر.
وهو في الوسط داخل إطار من الهواء، والهواء، كما نعلم، هو عبارة عن غطاء طنجرة مُزخرف بأشعة الضجّة ولولباتها الحلزونية. يبدو أن الكمشة كانت كافية، فلا تلاحظ على وجهه ملامح الاجتهاد. بين زمامير السيّارات يسرح فكره إلى السماء، السماء التي ستجعل من الضوء معدة، عمّا قليل.
أركض تحت أشجار الغروب، بينما الماء، جسراً بجسر، يجيء بالليل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
Mario Ángel Quintero شاعر وكاتب قصة كولومبي من مواليد 1964، تُمثّل تجربته التيار الجديد للكتابة في بلده.
**  شادي روحانا مترجم فلسطيني مقيم في المكسيك.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا