التخطي إلى المحتوى الرئيسي

دَين الترجمة

مزوار الإدريسي
يبدو أننا لا ننتبه، في حياتنا اليومية، إلى اكتساح الترجمة لمعيشنا؛ فبغضّ النظر عن القراءة حيث تبرز الترجمة أجلى وأوقع، ننسى أنّ البرامج التلفزية المتنوعة والأفلام السينمائية والأخبار الإذاعية والإعلانات كلّها تحمل بصمة الترجمة، لكننا لا نجرؤ، أو ربما نغفل، أن نطرح بصددها ذلك السؤال الممل بصدد منسوب الخيانة فيها أو استحالة الوفاء في مُنجَزِها.

وفي مُقابل الارتياب الذي يُروِّج له أعداء التجديد والمحافظون من حُرّاس العتاقة و"الهوية"، للنيل من هذا المورد الفني والمعرفي الحاضن للغريب، نجد أعلاماً في الإبداع والفكر يُقِرّون بأفضال الترجمة، ويُعربون عن حُبهم لمُزاوليها؛ لعل أبرَزهم الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو، الذي عُرِف بحُبّه المترجِمين وإنصافِه إيّاهم، كيف لا وقد عاش سعيداً مع المترجِمة الإسبانية القديرة بيلارْ دِلْ رِيُّو زوجَتِه ومترجِمتِه، التي نقلتْ أعمالَه إلى الإسبانية، والتي اشتُهِرتْ بإصدارِها لترجماتِه في لغة ثربانتس قبل صدورِها بالبرتغالية، في أحيان كثيرة.
ويؤكّد تقديرَ ساراماغو للمترجِمين ذهابُه إلى أن الأدباء يكتبون أدب أوطانهم، بينما العالَم برمته يَدين للمترجِمين بالكثير، لأنهم كُتّاب الأدب العالِمي.
ويعترف الكاتب الفرنسي مُورِيس بْلَانْشُو، من جهته، للمترجمين بمكانتهم ودورهم المهم في تثقيف قُرّائهم وفتح عيونهم على عوالِم جديدة، إذ يقول: "هل نحن على دراية بما نَدين به للتراجمة، وأكثر من ذلك، للترجمة؟ إننا نَعْلَمُه بشكل سيّئ. وحتى إن كان لدينا امتنان تُجاه البشر الذين يقتحمون ببسالة هذا اللغزَ المتمثِّلَ في مهمة الترجمة، وإنْ حيَّيناهم من بعيد بصفتهم أساتذةَ ثقافَتِنا الخفِيِّين، بما لهم من وداعة خاضعةٍ لحَماسِهم، يبقى اعترافُنا بهم صامِتاً ومُزدَرِياً بعضَ الشيء، وعلاوة على ذلك وبتواضع، نحن لسنا في المستوى حتى نكون مُعترِفين بهم".
"
يكتب الأدباء لأوطانهم ويصنع المترجمون الأدب العالمي
"
ويتبنّى الروائي الإسباني أنطونيو مونيوث مولينا، في مقاله "المترجمون" الموقف ذاتَه، بتأكيده أنَّ "المترجمين أساسيُّون، ولأن عملهم يوجد في كل الجهات، فإنهم ينزعون إلى التلاشي في اللامرئي، ولأنهم، أيضاً، بقدر ما ينجزون عملهَم بإتقان تمكُثُ آثارٌ أقلُّ تدلُّ عليه، لدرجة يتهيَّأ معها أنهم لم يتدخَّلوا.
نلاحظُ أن ترجمةً ما تُزعِجُنا بطريقة شبيهة بما نلاحظُه من صرير أثناءَ تغييرات السرعة من قِبَل سائق مُضايَق أو عديم الخبرة. هكذا تقفز كلمة غريبة، وتعبيرٌ ينتمي ظاهرياً إلى لغة أخرى، ونُدْركُ في تلك اللحظة فحسب، حقيقةً، أننا بصدد قراءة ترجمة. أن نفكّر حصرياً تقريباً في المترجم حين نحدس أنه قد أخطأ، فذاك دليل في الوقت ذاته على قيمة ذاك العمل، وعلى قلَّة الاعتراف الذي غالبا ما يحظى به".
إذن، لا عجب إنِ امتدَحَ والتر بنيامين المترجِمين على صبرهم وعنائهم، وهم "يختبرون بطريقة خاصة نُضج الكلمة الغريبة، مُتَّبعين آلامَ الوِلادة في لغتهم الخاصة"، لأنهم الذي يُجدّدون اللغة والفكر والأدب، ويرتقون بوعي الشعوب.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الاجتراءَ على المترجِمين، وبخسَ عملِهم قدرَه لم يتوقَّف منذ أن اجترحَ الإنسان هذه المهمة، فتارة يُذهب إلى ادعاء استحالتها، وتارة إلى خيانتها، وتارة أخرى إلى الارتياب فيها.
لكنَّ المعلوم أنَّ كثيراً من دور النشر مَدينة للترجمة بالأفضال عليها، لأن الكُتُب الأكثر استهلاكاً باعتراف الناشرين الكبار أنفسِهم هي المترجَمة، نَظَراً لإقبال القُرّاء على الأعمال العالمية التي تُوفِّرها لهم الأخيرة، ولأن الطلبة والباحثين يُقبلون على الدراسات الفكرية والأبحاث الفلسفية والروائية بنهم كبير.
ويُفتَرَض أن يُعرب قُرّاء الترجمة عن ديْنهم للتراجمة على شجاعتهم واجترائهم على المغامرة بنقل أعمال فكرية وأدبية إلى ثقافتهم المُضيفة، بعد اتخاذهم قرارات لغوية وأسلوبية وتخييلية وإيقاعية لا تخلو من إبداع، ولما فيها من تحدٍّ للسلطة التي تخشى النصوص المُزعجة، مثلما أنها تفتح عيونَ هؤلاء القُرّاء على الآخر الغريب، فيَعُون من خلالها واقع العالَم وأحوالَهم الذاتية أيضاً.
لكن كثيراً من المترجمين أنفسهم يَدينون للترجمة، لأنها مصدر عيش كثير منهم، ولأنها سبيل يسَّر لكثير منهم سبيل ولوج عالَم الكتابة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا