التخطي إلى المحتوى الرئيسي

"مكالمات تليفونية" لروبرتو بولانيو..الوجه فوق القناع

طارق إمام 
في قصصه القصيرة، يبدو الكاتب التشيلي روبرتو بولانيو كما لو كان يلتقط أفكاره وشخوصه من قارعة الطريق، فقط ليتركها على قارعة الطريق. 
 ثلاث عشرة قصة يضمها الكتاب القصصي "مكالمات تليفونية" (دار بتانة، القاهرة) والذي ترجمته عن الإسبانية عبير عبد الحافظ، ليصبح أول كتاب يُقدم بولانيو "القاص" لقارئ العربية في عملٍ مكتمل، بعد أن تُرجم عدد من أبرز رواياته إلى العربية خلال السنوات القليلة الفائتة، مثل "التعويذة"، "ليل تشيلي"، و"المخبرون المتوحشون".  

ربما يبدو بولانيو في هذا الكتاب، الذي يمثل تجربته القصصية كونه يجمع ثلاث مجموعات قصصية، كما لو كان يقدم الروائي وهو يخون نفسه في قصصٍ تبحث عن رواياتها، التي ربما لو أمهله العمر، هو الذي غاب في الخمسين، لأتمّها. يخون بولانيو ما يكاد يكون اتفاقاً حول طبيعة القصة القصيرة من أنها تفصيلة مجتزأة من حياة عريضة، فجميع قصص هذه المجموعة تعرض لحيواتٍ كاملة أو شبه كاملة، لشرائح أفقية عريضة زمنياً ومكانياً في بعض الأحيان. قصص عالقة بمصائر، تنتهي أحياناً بنهايات أصحابها أنفسهم، لتصل بهم إلى قبورهم. كأن قصص "مكالمات تليفونية" هي في جوهرها "معالجات" روايات مختزلة وملخصة في محطاتها الرئيسية لا ينقصها سوى إشباع فراغاتها لتصبح روايات كبيرة. في كافة قصص "مكالمات تليفونية" تظهر شخصيات "روائية" إن جاز التعبير، تعبرها الشهور والسنوات من شبابها المبكر حتى موتها أو على عتبات مصائرها
ما دون الواقع
مبدئياً، لن يشعر قارئ روايات بولانيو بغربة مع قصصه، فالتقنيات هي نفسها، وكذلك العوالم، فضلاً عن طبيعة اللغة. عالم الأدب والكتابة هو مجدداً عالم "مكالمات تليفونية"، فأغلب القصص تدور داخل ذلك العالم. والراوي، في الأغلب الأعم، يكتب بالضمير الأول، مذيباً المسافة بين قناع السارد ووجه المؤلف، لنواجه سارداً هو روبرتو بولانيو نفسه. يلعب بولانيو بنفسه كشخصية قصصية هي "أرتورو بولانو"، التي تظهر أيضاً في عدد من رواياته، كأنما يكسر إيهام النص المتخيّل، فهو يكتب قصصه بوجدان كاتب يوميات، وبروح تسجيلية توهم بغياب التخييل كأن النص محض إعادة تدوين لواقعة عادية أو لقاء عابر، تدوين لا يحتمل الاختلاق ويضيق بالتحريف، مُرسَلٌ بما يليق بكاتبٍ هاوٍ، ثرثرته لغو، ولا تمثل نهاية أي نصٍ فيه أكثر من قرار بسيط بوضع نقطة قبل أن تتضح أية دلالة محتملة لسيل الثرثرة الذي بلا قوام. يكتب بولانيو وكأنه لا يكتب، في الحقيقة يكتب وكأنه يتكلم، يبدأ من أي نقطة وينهي النص فجأة بينما تتساءل: ماذا حدث، وما الذي يجعل من هذا النص قصة مكتملة سوى أن صاحبها يرى ذلك أو يريده؟ يحبط بولانيو قارئه بأن القصة، في كثير من الأحيان، ليست موجودة كخطاب فني بل كمحاكاة لقصة الواقع التي تعوزها البنية والدلالة معاً، قصة تشبه الحياة في افتقارها للبناء: محض لقاء عابر، حوار مطول مع شخص لا يحيل إلى شيء، أو ثرثرة مبتسرة حول شخص يمكن أن يكون أي شخص.
ربما يحاكي بولانيو سلفه بورخيس (وأحد كتّابه المفضلين) في الاتجاه العكسي، حيث تغييب زائف للتخييل يطمح للنهوض بتخييل كامل من بوابة التوثيقي أو التأريخي، لكن بينما كان بورخيس يتعكز على الفانتازيا ويجيد إحكام حكاية مغلقة، فإن بولانيو يرتدي القناع البورخيسي بإيهام واقعي يكاد يتجاوز الواقعي نفسه للطبيعي مع بنيةٍ قصصية مفتوحة حد أن قارئها يشعر في كثير من الأحيان أنها لم تُكتب بعد
روايات مغدورة
"وهكذا مر عام". ببساطة يمكن أن نعثر على عبارة مثل هذه في قصة لبولانيو، بينما يتتبع السارد (كمحقق) حياة "روخيليو إسترادا" في قصة "الجليد"، لكن الأعوام والشهور التي تمر في قصص بولانيو حاضرة على الدوام في "مكالمات تليفونية". هذه قصص تعبرها السنوات الطويلة ببراءة حكاء شفاهي يختصر حياةً في جلسة.
تستدعي "جوانا سيلفستري"، بالضمير الأول، حياتها كممثلة أفلام إباحية. تخون "الموقف القصصي" المتمثل في رحلة للوس أنجليس من أجل تصوير أربعة أفلام، لنصير أمام ذاكرة تستدعي الحياة الكاملة لساردة في السابعة والثلاثين. إنها ترسم صورة لحياتها بأكثر مما تنخرط في حبكة قصة مجتزأة من الرواية التي تؤلفها هذه الحياة. ثمة "محقق" غامض، بوجودٍ مضبب، يظهر كسببٍ واهٍ لكي تدلي بحياتها وكأنها أقوالها. غير أن جوانا سيلفستري، التي تبدو الوجه الحسي لساردة "التعويذة" نفسها، ليست الشخصية الوحيدة التي تتحقق على هذا النحو، فبطل القصة الأولى "المدعو سينسيني"، يمارس اللعبة نفسها، لكن "المحقق" هذه المرة هو السارد، متحدثاً بالضمير الأول، لتنقلب اللعبة، فيصبح البطل الفعلي للقصة "هو" بدلاً من "أنا". ومثلما تنتهي قصة جوانا بلقاء رجل قادم من الذاكرة، تنتهي قصة سينسيني بلقاء السارد وابنته. "هنري سيمون لوبرنس"، شخصية أخرى، تقدم قصتها كبانوراما "عمومية" وليس كمشهد مقرب أو مفارقة. لا ينهض في علاقة مباشرة بالراوي، لأن قصته تحدث "أثناء الحرب الثانية". هنا، يتحول السارد غير المشارك إلى سارد عليم، يطل على حياة بطله من أعلى ولا يتورع عن قراءة أفكاره وتقديمه بالنيابة عن نفسه. لكن المحصلة هي، مجدداً، رواية ملخصة ومبتسرة إذ لا تمثل نهاية القصة نهايةً من أي نوع.
على جانب آخر، دائماً تنطلق القصص من هذا الغياب رغبةً في حضور أخير، غالباً ما يكون عابراً ومحبطاً، كأنه الحضور الذي يعمق الغياب. تنتهي مراسلات الكاتبين "السارد وسينسيني" بلقاء عبثي مع ابنة الكاتب لا يستغرق من القصة سوى بضعة سطور. وبالمثل تنتهي قصة "مغامرة أدبية"، التي تحتل لعبتها مطاردة غامضة بين كاتبين "أ" و"ب" بلقاء سريع لا نلمح منه سوى عبارات التحية، وبعد ذلك لا شيء. لا تبدو نصوص بولانيو القصصية قصصاً تنطفئ فجأة بقدر ما تبدو في حاجة لاكتمال، كأنها مكتوبة بيد الضجر.
العكس أيضاً يحدث، فمن قمة الحضور بين السارد و"إنريكي مارتن"، في القصة التي تحمل اسم الأخير، لقمة الغياب، عندما يشنق الشاعر غير المتحقق نفسه تاركاً قصائده في ظرف مغلق للسارد، كأنه يأتمنه على مقبرته.
 في القصص الثلاث عشرة التي تشكل مجمل النصوص، يلتقط بولانيو الذوات الأشد هامشية في العالم، من الأميركيين اللاتينيين التائهين في العالم، ضحايا الظرف الاجتماعي أو الديكتاتورية والاستبداد، ضحايا الكتابة والأوساط الثقافية الأوروبية. كافة الشخوص التي دخلت العالم من بابه الصغير هي أبطال هذه المجموعة وتظهر دائماً في حالٍ من اثنين: إما في علاقة بالسارد، الذي يحضر في هذه الحالة بالضمير الأول ملتبساً ببولانيو الواقعي نفسه، وإما عبر وجودٍ بانورامي لشخصية يرصده السارد دون أن يشارك فيه لكن بنظرة كلية تجعله أقرب ما يكون للسارد العليم وبروح تلخيصية تُجرد القصة من أية حيوية مشهدية لصالح تقريرية تلخيصية: "يُدعى البطل لوبرنس. يعطي الاسم انطباعات معينة لا يُعرف مصدرها تحديداً، كما أنه ليس "برنس على الإطلاق، بل ينتمي إلى الطبقة المتوسطة أو المتوسطة الدنيا، وذو صداقات متواضعة، وهو كاتب. هو كاتب فاشل بما لا يدع مجالاً للشك، أي يعيش على العمل في جرائد الصحافة الفرنسية الحقيرة".

يُبئِّر بولانيو في هذا الكتاب القصصي، شخصيات تبدو وكأنها وجدت نفسها فجأة تحت ضوء الفن فيما هي ذائبة في عادية الحياة اليومية. مرة بعد أخرى، تبدو القصة "بورتريه" لشخصية فنية في طريقها للعثور على قصة من بين ركام قصص تُشكّل حياتها، أكثر مما تبدو مشهداً حدثياً أو تفصيلة حكائية تبرزها المفارقة. من اللافت أن سبع قصص من بين القصص الثلاث عشرة التي تؤلف المجموعة تحمل عناوينها من دون مواربة أسماء أبطالها، وحتى القصص الأخرى، تتمحور كل منها بوضوح حول شخصية فنية توحي بأنها ليست بشخصية فنية. يرسمها بولانيو أكثر مما يمنحها القصة، كأن القصة في هذه المجموعة نص إرجاء. كأنها، بالأحرى، وعدٌ بنصّ.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا