التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ثلاثية غرناطة.. حكاية مجد غارب

قدّمت لنا المبدعة رضوى عاشور، من خلال عملها المميّز "ثلاثية غرناطة" صورة عن الأندلس قبيل وبعد السقوط التاريخي بأيدي ملكي قشتالة وأراغون، فرناندو وإيزابيلا، اللذين أرغما بوعبديل، آخر ملوك بني الأحمر على الرضوخ وبيع البلاد بثمن بخس ومن ثم الفرار بعدما ضاع ملكه، الذي بكاه كما شهدت على ذلك كتب التاريخ، وقيل إنّ أُمه رأته يبكي فقالت له: "ابك مثل النساء ملكا مُضاعا لم تحافظ عليه مثل الرجال"..، وما زالت الرّابية التي ألقى منها آخر نظرة على غرناطة ثمّ تنهّد فيها تنهيدته الحرّى، حيث عاتبته أمّه، تسمّى باسمه إلى الآن  (el suspiro del moro).
وهو ما برع في تصويره أيضا، الشاعر الأندلسي أبو البقاء الرندي، في قصيدته المشهورة عن الأندلس:
يا من لذلةِ قومٍ بعدَ عزِّهُمُ **** أحال حالهم ْكفر وطغيانُ
بالأمس كانوا ملوكًا في منازلهم **** واليومَ هم في بلاد الكفرعبدانُ
فلو تراهم حيارى لا دليل لهمْ **** عليهمُ من ثيابِ الذلِ ألوانُ
ولو رأيتَ بكاهُم عندَ بيعهمُ **** لهالكَ الأمرُ واستهوتكَ أحزانُ 


وقد جاءت الرواية عبر أقسامها الثلاثة، كتأريخ لتلك الحقبة المؤلمة والقاسية التي عاشها الغرناطيون، الذين قرروا البقاء بعد أن نكث القشتاليون بالعهد الذي قطعوه للمسلمين بعد السيطرة على المدينة، فأجبروهم على اعتناق المسيحية، واستبدال أسمائهم العربية بأخرى إفرنجية، والتخلي عن عاداتهم وتقاليدهم والتخلص من الكتب والمخطوطات التي توارثتها الأخلاف عن الأسلاف، وكانت محرقة باب الرملة، بمباركة "ثيسنروس" كاردينال توليدو، خير دليل على جهل وهمجية المحتل الذي لم يُقدر قيمة الذخائر النفيسة التي أتلفها، والتي ناهزت 600000 مجلّد، كانت تحتويها مكتبة "مدينة الزّهراء" بقصر الحمراء.
وقد اختارت الكاتبة، عائلة أبي جعفر الورّاق لتحكي لنا عبر تتبع مسار أفرادها، سيرة المأساة التي عاشها الغرناطيون عامة، وما نالهم من تنكيل على يد محاكم التفتيش أو ديوان التحقيق، كما جاء في الرواية، وهو جهاز إرهابي بالمفهوم الحديث، مهمته الأساسية مطاردة الخطاة والمذنبين من الموريسكيين، الذين لا يزالون على دين آبائهم الأولين ولم يبدلوا منه شيئا ضدا على قرارات الكنيسة وسلطات الاحتلال.
مريمة.. الوجه الآخر لصمود غرناطة:
لعبت هذه المرأة دورا محوريا في استمرار عائلة أبي جعفر الوراق في غرناطة، بعد أن صدر قرار تخيير العرب بين التنصير القسري أو الرحيل، فجاء الفرج على لسانها: "لا نرحل، الله أعلم بما في القلوب، والقلب لا يسكنه إلا جسده، أعرف نفسي مريمة وهذه ابنتي رقية، فهل يغير من الأمر كثيراً أن يحمّلني حكام البلد ورقة تشهد أن اسمي ماريا وأن اسمها أنَا. لن أرحل لأن اللسان لا ينكر لغته ولا الوجه ملامحه." فكان أن قرر الجميع البقاء ولو إلى حين.
مريمة في ثلاثية غرناطة، تجسّد نموذجا للدفاع عن المقهورين وإنقاذهم بالحكمة تارة وبالحيلة تارة أخرى من الوقوع في براثين مفتشي ديوان التحقيق، وقد احتفت رضوى عاشور من خلالها بالإنسان البسيط العادي، الذي تناساه المؤرخون في غمرة اهتمامهم بالملوك والأمراء والقادة وكبار الشخصيات، فأسندت البطولة لفئات البسطاء من قبيل الوراقين والسمارين والنساجين والمعالجات بالأعشاب وبائعات الكعك وعمال الحمامات... وهي بالتالي تكتب تاريخ هذه الطبقة الهامشية التي ظلت صامدة، بعدما فر الأشراف والكبراء بعد السقوط، وكلها أمل في قدوم مخلّص من المغرب أو المشرق لتحرير البلاد وفك أسرها وإحياء مجدها الغارب.
ولكن
هيهات..هيهات..
لكل شيء إذا ما تم نقصان **** فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دولٌ ****من سرَّهُ زمنٌ ساءته أزمانُ
وهذه الدار لا تبقي على أحد **** ولا يدوم على حال لها شانُ 
 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


  


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا