التخطي إلى المحتوى الرئيسي

نيوزيلاندية صغيرة وخجولة تصطاد البوكر مان برواية بوليسية ضخمة


هالة صلاح الدين

قد تتبدّى لك في الوهلة الأولى، بملابسها البسيطة وسلوكها الخجول المرتبك، طالبة في سنتها الجامعية الأولى، ولكن مواطنة نيوزيلاند إليانور كاتون (1985) انتزعت جائزة مان بوكر البريطانية لعام 2013 انتزاعاً بروايتها "الأجرام المنيرة" متفوقةً على كولم تويبن الكاتب الأيرلندي المخضرم لتنال جائزة قيمتها 500000 جنيه إسترليني وتتقلد مكانة لم تصل إليها إلا مواطنة واحدة من نيوزيلاندكيري هولم عام 1985.

جائزة مان بوكر لن تقتصر في العام القادم على دول الكومنولث، وإنما سوف تفتح أبوابها لمشاركة مؤلفين يكتبون بالأنكليزية من كل ركن في العالم. هذا القرار أدّى إلى إحداث انقسام محتدم الجدل بين الوسط الأدبي البريطاني، إذ يخشى النقاد من أن تهيمن الرواية الأميركية على الجائزة، وهو الأرجح في الحقيقة.


رواية ملحمية

خاضت كاتون عالم الرواية من قبل، إذ حبكت روايتها الأولى "البروفة" (2008) فضيحة جنسية في إحدى المدارس الثانوية، وقد رشحت لجائزة جارديان للعمل الأول وجائزة ديلان توماس، وتُرجمت إلى اثنتي عشرة لغة. والحق أنها لم تنبئ عن هذا التحول المستقبلي الذي أدى إلى فوز رواية تشويق تاريخية بالبوكر.
وعلى عمرها البالغ 28 خطت كاتون رواية من 832 صفحة يسمها أكثر ما يسمها التجريب في اللغة والتقنية. أشاد بها رئيس لجنة البوكر قائلاً، "يكمن نضج هذه الرواية في كل جملة. تطالع كل عبارة فتتولاك الدهشة لِما تضمره من معرفة واتزان." تنصب حكاية "الأجرام المنيرة" على قالب مألوف، حدوثة بوليسية إبان العصر الفيكتوري من القرن التاسع عشر، تذكِرة بروايات فيكتورية برعت فيها الكاتبة الويلزية سارة ووترز.
إنه عمل ملحمي يسلط عيناً أخلاقية على حمى الذهب، يصيبه الترهل تارة، وتلتئم أشلاؤه تارة أخرى. تقع كاتون على كل ما يجعل روايتها بوليسية بالمعنى التقليدي: إهدار دماء، جثث، جلسات لاستحضار الأرواح، دعاوى قضائية، ألغاز، متاهة من الشخصيات المتصارعة انتقاماً أو جشعاً.
قد يتيه القارئ بعض الشيء في منتصف الرواية إلا أن كاتون تتمكن من الإلمام بالحبكة قبل الانفراط التام من خلال بنية محكمة حريّة "بجداول التنجيم" – جداول يستعين بها البطل في معرفة قَدَره وسبيله – إذ يَشغل كل جزء مساحة تُقَدَّر بالضبط بنصف مساحة الجزء السابق عليه! وأحياناً ما يتبدّى أن الرواية تتريث وتتمهل عند أكثر من عقدة بيد أنها في الواقع تهدر متسارعة في مداها ووصفها للأجواء، ومع التسارع تترامى فسيحة صاخبة، وإن تفقد بين الحين والحين انتباه القارئ. تتراءى لي – على حجمها – حاملة لأهم سر من أسرار القصّ: كلما أعدت القراءة، انغمست متعثرا في المزيد من طبقات الحكي. استوحت كاتون موقع "الأجرام المنيرة" – بلدة هوكيتيكا بالساحل الغربي للجزيرة – من رواية الكاتبة البريطانية روز تريمان "اللون" (2003)

شعرية الأسرار

تتوالى وقائع الرواية في عام 1866، وتبدأ في ليلة لم تَسلم من العواصف بوصول مواطن إدنبره، ولتر مودي، إلى حقول الذهب في نيوزيلندا ليجمع ثروة أي ثروة. يترنح على قدمين متقلقلتين من سفينته صوب أول فندق يعثر عليه.
"يا لغباء عقول الغائبين من الرجال والنساء! ويا لمراوغة الدوافع!" هكذا تفسر راوية "الأجرام المنيرة"، وسرعان ما يتضح راو آخر يقص قصاً جماعياً مستخدماً كلمة "نحن" بلا سبيل إلى معرفة هوية المتكلمين. تتقافز وجهات النظر وحدود كل جرم سماوي من أجرام الشخصيات – إنها دليلهم إلى الصحة والسعادة والغنى – ويلعب عدد من الشخصيات دور المخبر ثم يتوارون الواحد بعد الآخر في غياهب النسيان. ولكن السرد يتواصل مبهماً داخل غرفة التدخين بالفندق حيث يلتقي الوافد بحشد متوتر من اثني عشر من رجال المنطقة الذين التقوا سراً لمناقشة سلسلة من جرائم تستعصي على الحل.
وهكذا ينجذب مودي إلى سر يتضمن شاباً ثرياً مفقوداً؛ ووكرا للأفيون؛ وعاهرة – متورطة تقريباً مع كل رجال الرواية – تتعاطى المخدرات وتحاول الانتحار؛ وثروة هائلة تم اكتشافها في بيت سكير؛ ومع عدد آخر من الشخصيات، منهم قسيس وسياسي وعراف وسجَّان، تتشابك الرواية لتنسج أحجية يدري كل مشارك فيها بشيء واحد على الأقل يخفى على الآخر.
الحق أن كل فرد منهم أتى من مكان ما قصيّ، "لا أحد ينتمي إلى هنا"، عدا واحد في الحقيقة من شعب نيوزيلندا الأصلي، ولا أحد ينجو من مقصلة كاتون الأخلاقية، الكل ساع إلى الثروة على حساب الكل. ففي بقعة عامرة بالخير الذهبي تلمّ التواقين من شتات الأرض، يمرح منقبون أوروبيون وعمال صينيون يعيدون صناعة أنفسهم في العالم الجديد "في طرف الأرض المتحضر بأقصى الجنوب".
لعل أكثر ما يحدو بالكُتاب إلى سبر العصر الفيكتوري هو أدواته المعيشية ذاتها. فما كان من الممكن أن تتوالى حبكة "الأجرام المنيرة" بأية صورة في العصر الحديث. ففضلاً عن غرائبية العهد وسحره، رسمت كاتون أشخاصا يزوِّرون التواقيع وخط اليد، يتنصتون على القصور، يعقدون لقاءات غرامية غير شرعية، مؤامرات تحاك، أناس من الماضي يبزغون فجأة وغرضهم الفضيحة، رسائل تصل بعد وقوع المأساة، بل وغياب التواجد الدائم ذاته، كل ما غاب عنا في العصر الحالي.

شخصيات مشرقة

تستغل كاتون اللغة بقلم خليق بأستاذة، لا شابة تكتب روايتها الثانية. تحتفي بلغة حوار موحية وكوميديا تُهْلِك ضحكاً. لا تبوح بكل معلومة كيلا تنكشف نواياها أمام القارئ. ثمة حذر ماكر في الإيذان بالحدث تمدّ معه حدود اللغة مستوعبة تمام الاستيعاب ماهية الأدب البوليسي. تتحلى العبارات ذاتها بتعقيد لا يزعج القارئ بالتفاصيل الهامشية، وإنما معانٍ تدق كل واحدة منها حجراً في هيكل يغذي الحبكة ويفك الألغاز.
تضمر كاتون أيضاً وعياً متقداً برسم شخصيات من لحم ودم، فنجحت في رسم شخصيات مشرقة تثب من الصفحة، تَلوح مفعمة بالحيوية متجسدة – على غرائبيتها – كل التجسد أمام مخيلة القارئ.
لا تخشى كاتون التجريب في تقنية كتابة الرواية ذاتها. إذ تنبع قيمة الرواية من مغامرة التجريب ذاتها، ولعله ما دفع بلجنة البوكر إلى اتخاذ قرارها.
لا تحاكي كاتون أسلوباً بعينه، وإنما عهد أدبي كامل، رواية القرن التاسع عشر، بمداها وأسلوبها، رجال يطاردون المال، وتشابُك مهيب لمصائر تنقلب بين عشية وضحاها، ولا ينقصنا إلا بعض القراصنة! بل إنها تضيف خلاصة بسيطة قبل كل فصل مقلِّدة الكاتب الإنكليزي تشارلز ديكنز، خلاصة توجز الفصل إيجازاً يسلب الفصل أحياناً بهاءه. ومع ذلك تنطلق بحرية لتسبغ تقنية معاصرة على قصة عتيقة تنتهي نهاية مفتوحة.
اعترفت كاتون بعد فوزها بالجائزة أن هذه الرواية المعقدة كانت "كابوساً" للناشر. يوحي عدد الصفحات بأن المؤلفة أطلقت العنان لأهوائها ورغباتها الأدبية كاملة في مجلد واحد. لا ريب أن الرواية قدَّمت نموذجاً لناشر غربي – جرانتا – يعلي من قيمة الأدب دون أن تختل موازين تجارته، ولا سيما في سوق عامر بروايات تاريخية كثيراً ما تَصدر في حجم أكبر من الأحداث الحقيقية ذاتها. ومثلما قطعت رواية القرن الواحد والعشرين شوطاً عما سبقها، يبدو وكأن أمثال كاتون بمقدورهم الدفع في اتجاه المزيد من التجريب والثورة على الثوابت في البنية والتقنية.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا