التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

 

قصة: خايمي بيلي*

ترجمة عن الإسبانيةغدير أبو سنينة

 

سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022 


عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى!

ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة

بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فاحش الثراء أو مُسرف الإنفاق. وما لبثوا أن بدأوا يتحدّثون بالسوء عنّي لأنّي لم أمنحهم البقشيش. لن يحترموني طالما لم أُخرِج محفظة النقود.

عشرات الإشارات الضوئية الحمراء الماكرة تُعيق مسيرنا من المطار نحو الشقّة التي نملكها في حيٍّ هادئ بالمدينة. على بُعد كلّ ثلاثة مربّعات، تُوجد إشارة حمراء تُعلي من شأن الإنسانية القديمة الساذجة، وتُذكّرنا أنّنا نعيش في إحدى جمهوريات الموز، حيث تتسرّب منك الحياة وأنت تُواصل التوقّف لتسعين ثانية كاملة، بانتظار تغيُّر لون الإشارة من الأحمر للأخضر، هذا إن لم تكُن الإشارة مُعطّلة أصلاً

شقّتنا مليئة بزهور تركتها والدتي، القدّيسة، الحريصة على التفاصيل. تستقبلنا مساعدتنا العزيزة بالعناق والابتسامات، وهي صديقة مقرّبة لابنتنا. أمّا ما حدث بعد ذلك، فقد كان متوقّعاً، تهرع ابنتنا للاستحمام، للتطّهر ووضع الكريمات والمستحضرات، فقد تربّت على النظافة، وها هي تُعاني من الأوساخ التي تفرضها رحلات الطيران على المسافرين. زوجتي تسكب لها كأساً من النبيذ، وأنا أفتح الثلّاجة وأتساهل مع نفسي لتناول المثلّجات التي كنتُ أحلم بها منذ شهور، مثلّجات لا أجدها إلّا في مدينة الغبار والضباب هذه، مثلّجات تُذكّرني بسنوات الطفولة، حينما كنتُ أتناولها جميعها من دون دفع ضريبة مُجزية من الوزن الزائد.

اليوم التالي، كان الجوّ شتاء، لكنه بدا كالصيف: ظهرت شمسٌ غير عادية، داعبنا هواءٌ دافئ، نهضت المدينة بتكاسُل بعد ظهر يوم الأحد. كانت أُمّي تنتظرنا بذراعين مفتوحتين وابتسامة عريضة، وهي ترتدي قبّعة وقفازات مكشوفة.

تُمسك أُمّي الجرس، وتدقُّه ونحن جلوس على المائدة، يأتي الطعام، فتُباركه، في الوقت الذي تكتم فيه ابنتي ابتسامة. يُقدَّم لنا السمك بالزبدة السوداء، وسلطة الأفوكادو والطماطم والفطر والأرزّ المُرحَّب به على الدوام، والذي يُعزّز المائدة حين يُخلَط مع الذُّرة. وليستغنِ الأشخاص النحيفون الحامضون عن الأرزّ المخلوط بالذرة، ليتسنّى لي القضاء عليه بسرعة، ولأواجه نظرات أُمّي القلقة.

لا نأتي على ذِكر السياسة أبداً، وهذا أمر جيّد. ولا نطرح مواضيع شائكة، وهذا أفضل وأفضل. نتحدّث عن المواضيع التي تطرحها أُمّي بحنانها المعتاد، آخر الأفلام التي شاهدَتها، الانتصارات الأكاديمية التي حقّقتها ابنتي، رحلات سفر إخوتي المتواصلة، الرواية التي تودّ زوجتي كتابتها، مقاطع الفيديو المنزلية التي نصوّرها كلّ مساء، كلّها تُعدّ نجاحات إذا ما قيست بزيادة عدد المُشتركين والمشاهدين.

في حديقة منزل أُمّي الواسعة، تهبط الحمَاماتُ لشُرب المياه من النوافير والمسبح، وطيور بصدور ذات ألوان أزرق وأحمر وأصفر، تطير من غصن إلى آخر. أفكّر بأنه أمرٌ جيّد أنّ أبي لم يعد على قيد الحياة. لو كان حيّاً، لأخرج بندقيّته وقتلها جميعاً، الحمَام والطيور الملوّنة. حينما كان أبي يترأّس هذه المائدة التي تحكمها أُمّي اليوم بجرسها، كان الضحك محظوراً والسعادة أمراً يُثير الريبة، بل أمراً "مخنّثاً". الآن، على الأقل نستطيع أن نضحك بسهولة

حين كانت زوجتي تسجّل لي مقطع الفيديو المنزلي هذا المساء، وأنا أجلس على مقعد في الحديقة مع أُمّي التي تلحّفت جيّداً وهي تقرأ الصحيفة اليمينية السَّمجة، وكأنها إنجيلها، فيما يتعلّق بأمور السياسة القبلية والقروية، سألتُها إن كان بإمكانها إعارتي نسخة من أحدث رواياتي، وكنت قد أهديتها لها منذ شهور. فوجئتُ بأنّها ليست موجودة. يا للعار! ألف اعتذار واعتذار، لقد أهدتها لصديقها القسّ الذي يعيش على صدقات أُمّي… قوّادٌ آخر. أتساءل بصمت: هل قرأت أُمّي الرواية؟ أم أخذتها لصديقها لينثر ماء مباركاً على الشياطين التي تسكنها! لم أعرف الجواب من أُمي، القدِّيسة، لكنّها لطالما اعتقدَت أن الشيطان نفسه هو من يُوسوس لي بأحداث الرواية حين أكتُب، التخيُّلات والتشابُكات والهدنات. كيف يُمكنني دحض شكوك أُمّي؟ مستحيل.

في الأيام اللّاحقة، أخذتُ أوقّع مساء هذا اليوم أو ذاك عشرات النسخ من روايتي من المكتبات. كانت الرواية قد لاقت نجاحاً كبيراً وبِيعت منها آلاف النسخ، حتى انتهى بي الأمر إلى التوقيع على الإصدارات المُقرصَنة التي لم يعُد هناك مفرّ منها. من المشجّع أنّ كثيراً من قرّائي هُم من فئة الشباب. وأجد الأمر ملهماً لا سيما حين يقولون لي: إنّ بعض رواياتي حسّنت حياتهم. كم هو صعب تقديم النصح للآخرين! أتخيّل نفسي تقول؛ كن حرّاً، كن سعيداً، كن نفسك، حينها سيبدو جليّاً أنني دجّال. بعد التوقيع، تأتي مرحلة التقاط الصورة أو الصور، وتتبعها غالباً الرسائل الصوتية التي أتظاهر فيها بتدفُّق العاطفة الجيّاشة لأشخاص لا أعرفُهم ولا بأيّ شكل من الأشكال

كثيرون لا يمكنهم احتمال ثلاث ساعات من حفلات التوقيع، وإرسال التحيّات والابتسامات اللامتناهية. تعلّمتُ الصبر من أُمّي القدّيسة، كانت هي من علّمتني الابتسام في وجه من هُم بأمسِّ الحاجة لنظرة محبّة، وابتسامة عطوفة. لست متأكّداً من كوني كاتباً جيّداً، لكنّني أعرف أنّي صديق جيّد لقرّائي، وأنّ الجميع يُغادر سعيداً. بعد ثلاث ساعات. أشعر بألمٍ في وجهي من كثرة التبسّم، بالكاد أستطيع التحدّث، ربما يثقل عليك النجاح ويجعلك عاجزاً عن الكلام!

في حوالي الساعة الحادية عشرة ليلاً، كانوا ينتظرونني في مطعم يبعد ثلاثة مربّعات عن شقّتي. تعلمون الآن ما سأطلب؟ لحماً بقريّاً طريّاً جدّاً يذوب في الفم، مصحوباً ببطاطا مهروسة وأرزّ (الأرزّ من جديد، يا لها من نعمة!)، أمّا بالنسبة إلى الحلويات فحلوى الليمون. أثناء عودتي إلى المنزل، وأنا أقود السيارة أوقفني الشرطي، من دون أن أكون قد ارتكبتُ أيّة مُخالفة. لم أغرّم، أراد الضابط التقاط صورةٍ معي، بالخدمة أيها الضباط... دائما بالخدمة!

بعد أن غسلتُ يدي جيّداً بالصابون كالمهووس، طبعتُ قبلة على جبين ابنتي وهي نائمة. أرتدي ملابس النوم الآن، وأستلقي على كرسيٍّ في الصالة وأتحدّث مع زوجتي، وهي مُستلقية على أريكة أُخرى، بملابس النوم أيضاً. أفكّر، كم كنتُ محظوظاً بالتعرّف إليها قبل خمسة عشر عاماً في هذه المدينة، في استديو التلفاز حيثُ كانت مع صديقها، سائق الدرّاجة النارية. الآن، هذه المرأة تُحبّني، بل منحتني ابنتي، الكنز بالنسبة إلي، وما زالت تُواصل دعمها لأخوض معركتي الوهميّة في كتابة الروايات

اعتقدتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأ رواياتي، لكنّ هذه الزيارة لمدينة الغبار والضباب دحضت شكوكي المشؤومة، ما زال هناك الكثير من المجانين الذين يقرؤونني، إضافة إلى القسّ، صديق أُمّي



*
كاتبٌ وصحافي من بيرو

 

 

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو