التخطي إلى المحتوى الرئيسي

أحاديث عن الموت والحياة والأدب


 د. محمّد محمّد خطّابي  

   الكاتب الأرجنتيني المعروف “إيرنيسطو ساباطو” (Ernesto Sabato) كانت له حكاية طريفة مع الموت، وهو لم يزلْ في عنفوان العمر وشرخ الشباب وريعانه، ذات يومٍ وهو في غربته ومهجره بفرنسا بعيداً عن أهله وذويه وبلده عندما إدلهمّت، وإسودّت الدنيا في عينيْه. فقد أشار في مختلف المناسبات ضمن أحاديث وحوارات عديدة أنّ الحياة – في منظوره-  قصيرة جدّاً على الرّغم من عمره المديد (عاش زهاء قرن من الزّمان)، وأنّ مهنة العيش صعبة وشاقة للغاية، ومن متناقضات الحياة وسخريتها في نظره أنّه عندما يبلغ الإنسان سنّ  النضج، ويبدأ في إدراك خبايا الأمور، والتعمق فيها يداهمه المرضُ، ويهدّه الوهنُ، ويحدّ العياءُ من نشاطه، وحيويته، وحركاته، ثمّ أخيراً يأتيه الموت ويباغته”، كان يقول  قبيل وفاته: إنّه ما زال يتعلّم أصولَ العيش، وفنَّ الحياة التي تحفل بالآلام، والآمال والمحن، والأحزان، وحياة الكاتب أو الفنّان أكثر خطراً وتعقيداً لحساسيته المفرطة، وأنّ المرء في بعض الأحيان يتمنّى الموت ويشعر بميل له لجعل حدّ لحياته، وهذا ما حدث له بالفعل عندما كان في مقتبل العمر، وعليه فإنّ هذا المشهد كثيراً ما يتكرّر في كتاباته، إلاّ أنّ أبطاله على النقيض من ذلك ينتهون دائماً نهايات سعيدة،  ينتهون بمعانقة الحياة، وإقصاء التهلكة عنهم، ولهذا فليس هناك أيّ دين يبيح الانتحار، بل إنّ جميع الأديان تحرّمه

الأدب مُنقذنا

    إيرنيسطو ساباطو حسب ما رواه لنا بالفعل فقد أنقذه الأدب من  مخالب موت مُحقق، إذ أنّه في شتاء عام 1935 عندما كان يقيم في باريس، كان يشعر أنّ الدنيا قد ادلهمّت واسودّت في عينيْه وأثقلت كاهلَه، وقصمت ظهرَه، حيث كان يعيش أقسى، وأعتى، وأمرّ سني عمره، وكان يشعر أنّ هوّة سحيقة عميقة مظلمة تنفتح تحت قدميه روحياً ومادياً، عندئذ فكّر في أن يجعل حدّاً لحياته، وأن يلقي بنفسه في نهر السّين الباريسي، إلاّ أنّه حدث له ما لم يكن في الحسبان فيقول : فقد سرقتُ كتاباً من إحدى المكتبات وهي مكتبة جِيلبيرْ جُونْ، وذهبتُ إلى أحد المقاهي في الحيّ اللاتيني، وفتحت الكتابَ في صفحته الأولى وقلت مع نفسي سأقرأ هذا الكتاب أوّلاً ثمّ أنتحر..! إلاّ أنّ الذي حدث هو أنّ الكتاب شدّني إليه، وأعادني إلى الحياة بقوّة، وبسط أمامي مباهجَ الدنيا، وفضيلة التعلّق بها، فكنت كمن يحاول الفرار من الجحيم إلى الفردوس، كتبتُ على الفور إلى أمّي في الأرجنتين، وطلبتُ منها بأن ترسل لي بعضَ النقود لأعود إلى بلدي حيث التحقتُ بمعهد للعلوم وتحوّلت إلى باحث في العلوم، وبعد أن حصلت على الدكتوراه في هذا الحقل عدت من جديد إلى مدينة النور باريس، التي ولدت فيها من جديد، وأقنعتني اتصالاتي، وقراءاتي، وصداقاتي مع العديد من الكتّاب، والرسّامين السّورياليين بأن أهجرَ عِلْمَ وعالمَ الرياضيات والعلوم من جديد وأن أرتمي في أحضان الأدب، والشعر، والموسيقى، والخلْق، والعطاء، والإبداع. فهذه المعاني الجميلة في آخر المطاف هي التي شدّتني الى الحياة وأنقذتني من موت مُحقّق

   ويشير ساباطو أنّ عودته هذه في الواقع هي عودة إلى حبّه القديم، الى فلسفته الفوضوية إذ كان يعتقد انّنا نعيش نهايةَ عهدٍ، وبدايةَ عهدٍ آخر جديد، وأنّ العهودَ الحديثة منذرة بغير قليل من الأخطار، والأعاصير الحياتية والمفاجآت، ففي هنيهة واحدة قد نختفي من على ظهر هذه البسيطة، أو من على تضاريس هذه الخارطة بسبب تلك الكارثة التي تسمّى الطاقة الذريّة، ولهذا فإنّ البشرية لابدّ أن تبدأ من جديد في تركيب وترتيب، وتمحيص وتفحيص أفكار الماضي واستخراج ما هو صالح منها، ونبذ كلّ ما طالح بها. كان ساباطو يقول وعن وظيفة الفنّ: إنه يصلح لإنقاذ صانعه، ومبتكره، ومتلقّيه، وقارئيه من الانهيار، بل إنه يساعدنا على مواجهة بعض اللحظات الحالكة، والصّعبة في حياتنا، لحظات العزلة، والوحدة، والحيرة، والغضب، والمعاناة، والمرارة، والقلق، والإحباط، والارتياب حيال التساؤلات الكبرى، والألغاز المحيّرة للوجود التي تُطرَح على المرء في لحظاتٍ مّا من عمره

أحفاد سقراط الأكثر سعادةً

   ويشير ساباطو إلى أنّ الإغريق كانوا خيرَ مربّين لشعوبهم على المستويين التعليمي والتربوي، فبحّارة مرفأ مدينة “بيريّوس” لم يكونوا متعلمين بل أمييّن، مع ذلك كانوا يرتادون المسرح لمشاهدة سوفوكليس، ويوربيديس، وأنيكزوفانيس وسواهم، وكانوا يبكون، ويضعون نصب أعينهم مواقف تساعدهم على إنقاذ ذواتهم، وأنفسهم، ممّا كان يجعلهم أكثرَ سعادة، واستعداداً لمواصلة العيش، وفهم الحياة بشكل أحسن، أيّ فهم واستيعاب الجوانب الإيجابية والعناصر الصالحة فيها. ويرى ساباطو أنّ تلك هي وظيفة أو رسالة أيّ فنّ عظيم، حتى وإن كان يبدو ذلك متناقضاً، بخاصّة فيما يتعلق بالتراجيديا. ليس معنى ذلك أنّ هذا اللون من التعبير لا يقدّم أيّ شكل من أشكال الجمال، فالعكس هو الصحيح، فالجمال الحقيقي هو ليس من باب الجمال الذي يقدّم لنا ديكوراً في إناء مزركشاً، أو رسماً بديعاً على فخار، بل إنّه جمال معنوي، يخاطب الرّوحَ والوجدانَ أكثرَ ممّا يخاطبُ العينَ والأذنَ. ويختم الكاتب السّاخر حديثه بالقول: إنّ مثل هذه الأحاديث أملته عليه السّنون، فليس له في هذه السنّ المتقدّمة سوى الحديث بعدما خَبَا ضياءُ عينيْه، وشحّ نظرُه حتى كاد يفقده، وبعدما كان قد توقف عن القيام بأيّ نشاط عضوي، سوى المشي قليلاً بتؤدةٍ وتأنٍّ بضعَ خطواتٍ في باحةِ بيته. وكأنّ ساباطو في هذا المعنى يذكّرنا ببيتيْ أبي عليٍّ البصير الذي يقول فيهما:   

   لئن كان يهديني الغلامُ لوجهتي / ويقتادُني في السّير إذ أنا راكبُ

فقد يستضيُ القومُ بي في أمُورهم / ويخبُو ضياءُ العينِ والرّأيُ ثاقبُ

أو وكأنّه يُعيد لأذهاننا معنى بيتي أبي العلاء المعرّي القاسييْن القائليْن:

ضحكنا وكان الضحكُ منّا سفاهةً   / وحُقّ لأهلِ البسيطةِ أن يُبكُوا

تُحطّمنا الأيّامُ حتى كأنّنا   / زجاجٌ ولكنْ لا يُعاد له سبكُ.

حياته وأعماله

   يعتبر إرنيسطو ساباطو من أكبر الكتّاب المعاصرين سواء في بلده  الأرجنتين أو في سائر بلدان أميركا اللاتينية والعالم الناطق باللغة الإسبانية ،إنه صاحب الأعمال الرّوائية الذائعة الصّيت مثل: عن الأبطال والقبور، والنّفق، وملاك الظلام، وأبادّون المهلك، وسواها من الأعمال الأدبية التي بصم فيها عصرَه بكلّ ما تميّزت به بلادُه الأرجنتين بالذات من فتن، وقلاقل، واضطرابات، ناهيك عن الجرائم التي ارتكبتها الدكتاتورية العسكريّة فيها، حيث ناءت كاهلَه مهمّةٌ شاقةٌ عانى منها الكثير عندما كلّف بها إبّانئذ وهي رئاسته للّجنة الوطنية للبحث عن المفقودين خلال حكم الرئيس الأرجنتيني راؤول ألفونسين. سبق لأرنيسطو ساباطو أن حصل عام 1984 على جائزة مرموقة تحمل اسمَ ميغيل دي سيرفانتيس صاحب دُونْ كيخوتِه دِي لاَ مَانشا، التي تنظّم بإسبانيا والتي تعتبر بمثابة نوبل في الآداب الاسبانية. كما حصل على سواها من الجوائز الأدبية والتكريمية الهامة الأخرى داخل بلاده وخارجها. توفّي ساباتو عام 2011، عن سنٍّ تناهز 99 عاماً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

د. محمد محمد الخطابي

كاتب وباحث ومترجم من المغرب، سفير في عدّة بلدان في أمريكا اللاّتينية وقنصل عام سابق في جزر الكناري ومدريد، عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم- بوغوطا- (كولومبيا).

 

عن موقع السؤال الآن

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا