قصة:
إنريكي دلانو فالكون (1936-2017)*
Enrique Délano
Falcón
ترجمة: رفعت
عطفة**
لأنني لا أؤمن
بما قالوه ووعدوا به، وحتى بما كان يمكن أن يقسموا به، أطلب الآن الكلمة كي أصرخ
بأعلى صوتي: فلتحيا الحياة وليمُتِ الموت والأبوابُ المغلقة ونصف المفتوحة، ولتعشِ
الأبواب المشرعة، تلك التي تُفتَح في وجه كل الرياح والآباء المستبدين وفي وجهكَ
أنت نفسَك، يا من لا تعرف سوى، العيش بأفكار جامدة تترسخ رغماً عن أنفك، في بلازما
عقلانية تجعلك بالتأكيد تشعر بالغثيان. ولذا أرفع بنفس الصراحة المعتادة نخب
الآتي، نخب الأمان المحطم والمجهول، نخب كلّ شرٍّ أو خيرٍ يمكن أن يتكشّفَ خبثاً
أو نعيماً، وراء الباب الذي لم نكن نريد دفعه بلطف إنما كسرناه ركلاً كي نلقي نظرة
غائمة على ذاك الجانب الآخر، الذي عادةً ما يظهر على هيئة أبخرة جهنمية أو هواء
نقيّ، ويكشف عن نفسه بألوانِ الطفولة الوردية الباهتة، أو بألوان أرجوانية تُصيبُ
بالدوار أو برتقالية أو بلون أسود داكن جداً.
أجل، بينما أنا
على قيدوم سفينةٍ صغيرة تجري في النهر الأزلي وتعبر بجرأة المضائق الصغيرة، أغني:
«أنتِ طويلةٌ ونحيلةٌ كأمك» ويتأرجح التيار غامضاً من ميمنة السفينة إلى ميسرتها،
أواصل: «سمراء ومالحة»، تصلين، وتقفين هناك وأنا أدندن كالمعتاد، أنظر إليك وأرى
أنك لستِ طويلةً ولا نحيلة، إنما بالأحرى قصيرة القدّ وممتلئة، أرغب في
التوقف، غير أني أتابع الغناء، ففي النهاية يمكن للحنين والذاكرة الملعونة وسوء
الفهم أن تفعل الكثير، أتابع: «مباركٌ هو الفرعُ الذي يُطرَح من الجذع», ولا
أستطيع تجنب الذكرى وصورة تلك الابنة البعيدة, التي لم تكن طويلة ولا نحيفة كأمها،
لكنها ذات يوم ستغدو طويلة جداً كظلٍّ عملاق منعكس على الرصيف, أو تحت إفريز
الشرفة.
أنظرُ إليكِ طالباً أن نُمْهَل بعضَ الوقت، ما يكفي لنجتاز
المضيق التالي، ثم توقفتُ عن الغناء. وحين انتبهت إلى أنك لستِ هنا وأنني في كل مرة
أنظرُ فيها إليكِ، في الحقيقة لا تكونين هنا، ولا على الطرف الآخر من السفينة،
أدرك أنني وحيدٌ بشكل بائس، وأكثرُ جنوناً من عنزة، وبأنني أفقد صوابي مبحراً في
سفينة مجانين نحو الجنون، أجل، الكلُّ ينظر إليّ الآن، يحدّقون بي بوجوههم الرهيبة
المغطاة بقماش أبيض وأعينهم الحادة كالخناجر، إنهم قادمون الآن، إنهم يقتربون، هل
تتذكرين: كنت تلملمين أوراق الخريف المندّاة بالمطر برأس مظلتك وتنسقينها واحدة
واحدة بينما نسير في الليل لا نعرف ماذا نفعل. لم أستطع أن أتفادى النظر إليك من
زاوية عيني بحيث أنك حين اكتشفتِ ذلك لمّا التقت عيناك العاشقتان بي، ابتسمتِ كما
لو أننا تركنا كل شيء خلفنا وبحركة بطيئة أخذنا نسير بخطوات عائمة على سحب قطنيّة
بيضاء ووردية وسماوية، أشبه بذاك المزيج من الضحك والدموع، من النشوة الشديدة
الحمرة والاكتئاب، إلى أن وصلنا. أبقيتُك قريبةً وودّعنا بعضنا. أجل، ها هم
قادمون، ينظرون إليّ جميعاً بكمّاماتهم البيضاء مسلحين، والسفينة تهتزّ بلطف ورفق
في تيار نهر يانغستي، ولا أعتقد أنني أستطيع أن أذهب أبعد من المضيق التالي. ولهذا
من هنا، الآن أفضّلُ أن أقول وداعاً، لقد وصلوا وأنا محاصر، إنهم يقيدونني، أقول
وداعاً من هذا الجانب الآخر من العالم رافعاً بصري نحو النجوم وأرسل للجميع ملوحاً
بيديّ هذا الوداع الأخير.
-ابدأ العملية يا دكتور.
- مِشْرط…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*إنريكي دلانو فالكون (1936-2017): قاص وروائي من الشيلي.
.رفعت عطفة: مترجم وكاتب سوري**
نشرت الترجمة في مجلة
الشارقة الثقافية العدد الثالث والسبعون (نونبر 2022)
رائع استمر
ردحذفشكرا أخي على مرورك البهي
حذف