التخطي إلى المحتوى الرئيسي

وداعا زافون.. ساحر «مقبرة الكتب المنسية»

محسن الرملي


فقدت إسبانيا في الجمعة الماضي 19 يونيو، أشهر كُتابها المعاصرين في العالم، والأكثر مقروئية منذ ثربانتس صاحب (الدون كيخوته) في القرن السابع عشر، ألا وهو الروائي كارلوس ثافون، والذي يُعتبر، بحق، ملك الرواية الأكثر مبيعاً باللغة الإسبانية، أي رواية البيست سيلر، فقد باعت أعماله ملايين النسخ وتُرجمت إلى قرابة الخمسين لغة، منها لغتنا العربية، حيث يعرفه القراء العرب بلقب (زافون) فيما الأصح هو (ثافون) وفق اللفظ الإسباني، وبالطبع حدث هذا الخطأ اللفظي مع أسماء وأعمال كثيرة تمت ترجمتها من لغة وسيطة، لا من لغتها الأصلية.

مثل ظاهرة فريدة، عالمية في الأدب الإسباني، مزج بحب وتأثر صريح وقصدي بين ثقافته المحلية وثقافة أخرى، هي الأميركية على وجه الخصوص، تماماً كظاهرة موراكامي في الأدب الياباني. 
ولد كارلوس رويث ثافون سنة 1964 في برشلونة، في شقة صغيرة لعائلة متواضعة لا علاقة لها بالأدب، الأم ربة بيت والأب وكيل شركة تأمين. بدأ دراسته في مدرسة يسوعية ثم توجه للتخصص في دراسة علوم تكنولوجيا المعلومات، ولأنه كان متفوقاً فيها منذ السنة الأولى، حصل على فرصة عمل في شركة إعلانات معروفة في برشلونة، وسرعان ما صار المدير الإبداعي فيها، لكنه قرر التخلي عن ذلك عام 1992 وتكريس بقية حياته للأدب.
بدأ بكتابة أدب الفتيان أو اليافعين، ففازت روايته الأولى (أمير الضباب) بجائزة إيديبه عام 1993 واستثمر المكافأة المالية للجائزة لتحقيق حلمه بالسفر إلى الولايات المتحدة الأميركية، التي كان مفتوناً بثقافتها وموسيقاها من خلال شغفه بالسينما منذ طفولته، واستقر في لوس أنجلوس، ممضياً السنوات الأولى بكتابة السيناريوهات البسيطة إلى جانب استمراره بكتابة الروايات لليافعين، مكملاً روايته الأولى بروايتين هما: (قصر منتصف الليل) 1994 و(أضواء سبتمبر) 1995 لتعرف بعد ذلك تحت عنوان (ثلاثية الضباب) والتي سيتم نشرها لاحقاً في مجلد واحد، ثم ألحقها سنة 1999 بروايته (مارينا) والتي يعتبرها ثافون أقرب أعماله إليه شخصياً، وذلك لانعكاس بدايات شبابه فيها، اكتشافه لمحيطه ولذاته، المدينة والعالم والعلاقات الإنسانية كالحب والصداقة والفضول المعرفي وغيرها.
ثم جاءت روايته الأولى للبالغين (ظل الريح) والتي شكلت انطلاقته الحقيقية نحو الشهرة والمجد. تقدم بمخطوطتها إلى مسابقة جائزة لارا سنة 2000 وكانت ضمن القوائم النهائية لكنها لم تفز بالجائزة، إلا أن إعجاب الكاتب المعروف تيرينسي مويكس الشديد بها، والذي كان أحد أعضاء لجنة التحكيم، دفعه لإقناع دار نشر بلانيتا، وهي أكبر دار نشر باللغة الإسبانية، بنشرها، فصدرت عام 2001 وكان الإقبال عليها بطيئاً في البداية مما حدى بالدار للقيام بحملة دعاية كبيرة لها، أثمرت عن تفجر شهرتها لتتعدى مبيعاتها العشرة ملايين نسخة وتتصدر قوائم الروايات الأكثر مبيعاً في العالم بعد ترجمتها لأكثر من لغة.
وكان من الطبيعي أن يتم استثمار هذا النجاح الهائل لرواية (ظل الريح) من قبل المؤلف والناشر فيستمر بإصدار أجزاء مكملة لها: (لعبة الملاك) 2008 التي كانت طبعتها الأولى مليون نسخة، رافقتها أكبر حملة دعائية في تاريخ دار نشر بلانيتا، وتبعها بإصدار (سجين السماء) عام 2011 ثم ختمها برواية، من قرابة ألف صفحة، بعنوان (متاهة الأرواح) سنة 2016، وعرفت هذه الرباعية الملحمية بعنوان (مقبرة الكتب المنسية) نسبة إلى الفكرة الأصلية لرواية (ظل الريح) والتي تدور أحداثها في مدينة برشلونة عام 1945، منذ زمن الثورة الصناعية وإلى ما بعد الحرب الأهلية الإسبانية. يحوكها ثافون بعناية فائقة، مستفيداً من خبرته بالكتابة التشويقية لليافعين، وتجاربه في كتابة السيناريو وخلق المشاهد والأحداث التصاعدية المفاجئة المبهرة.
وكما كان سطوع نجم كارلوس ثافون مفاجئاً وسريعاً، جاء موته مفاجئاً للجميع، وهو في ذروة شهرته وعطائه، ذلك أنه في الخامسة والخمسين من عمره، ولم يكن خبر إصابته بسرطان القولون، منذ أكثر من عامين، معروفاً للجميع، بحكم طبيعته الشخصية المتحفظة والبعيدة عن الوسط الثقافي والإعلامي الإسباني، حيث يعيش في لوس أنجلوس بالولايات المتحدة الأميركية منذ عام 1994 إلى أن توفي فيها، فنعاه كبار القادة والشخصيات في البلد والملايين من قرائه في العالم، مؤكدين على أنهم لن ينسوا أبداً مقبرته الساحرة (مقبرة الكتب المنسية).
 وإذا كانت وفاة ثافون تعد خسارة للأدب فهي خسارة أكبر لسوق الأدب، كونه استطاع تنشيط الشغف بالقراءة عبر تمكنه من الارتفاع بمستوى كتابة روايات اليافعين، التي يجيدها، لتصبح صالحة للقراءة من قبل كل الأعمار والمشارب، فمن حيث الشكل، وظف عناصر التشويق والفانتازيا والحبكات البوليسية وتقنيات الفنون المرئية وتعدد الحكايات الصغيرة المفاجئة داخل الحكاية الإطارية الكبرى، ومن حيث الموضوع، جعل محور حكايته عن الكتب والإغراء بالإقبال عليها، ومن أشهر عباراته بهذا الشأن: «كل كتاب، كل مجلد تراه، له روح، هي روح الذي كتبه، روح من قرأوه وعاشوا وحلموا به».
ــــــــــــــــــــــــــــــــ

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا