التخطي إلى المحتوى الرئيسي

السجين رقم 19


السجين رقم 19



قصّة: ماريو بنديتي*

ترجمها عن الاسبانية: توفيق البوركي


-النّقيب فارّياس؟
-نعم.
-ألا تتذكّرني؟
-بصراحة لا.
-ألا يُوحي لك الرّقم 19 بشيء؟
-تسعة عشر؟؟
-السّجين رقم19.
-آه.
-تتذكّر الآن؟
-كان عددهم كبيراً..
-ليس دائماً. على متن الطّائرة كان عددنا قليلاً.
-لكنّك...
-رسميّاً أنا ميت؟؟
-لم أقصد ذلك.
-لكنّك تفكّر فيه. وليكن في علمك بأنّني لست شبحاً، وكما ترى أمامك فأنا حيّ أُرزق.
-لم أفهم شيئاً.
-نعم، هذا عصيّ على الفهم. ولتعلم أنّني لن أخبرك كيف نجوْت. يبدو أمراً مستحيلاً. أليس كذلك؟؟ كنتم تعملون بدّقة وتتخذون جميع الاحتياطات، لكنّ رحلةً جويّة تبقى رحلة جوّية. وكما توجد في العالم بحار عديدة ففي وسط البحر أيضاً توجد عوالم كثيرة.
-هيّا، كُف عن التلّفظ بهذا الهراء. أمر كهذا لا يمكن أن يحدث مطلقاً.
-بلى، بإمكانه الحدوث.
-لم جئت؟ وماذا تريد؟
كان النّقيب فارّياس متّكأً على سياج حديقته، في حين كان الرّقم 19 واقفاً على مبعدة متر منه تقريباً.
-لم آت بخصوص أيّ شيء. فقط أردْتُكَ أن تراني. وقد فكّرت أنّ تصرّفي قد يزيح عن ضميرك بعض الثّقل. ما رأيك؟؟ على الأقل قتيل واحد خارج الحساب رغم أنّ هناك آخرين ليس في مستطاعهم الانبعاث من جديد.
-هل المال هو ما تسعى إليه؟
-لا، ليس المال.
-إذن ماذا تُريد؟؟
-أن أتعرّف إلى أسرتك. زوجتك، على سبيل المثال، التي تنتمي إلى "تُوكمان"؛ مثلي بالضّبط وأيضا التعرّف إلى الأولاد.
-لن يحصل هذا أبداً...
-لم لا؟؟ اسمع، لن أحكي لهم شيئاً ممّا حصل.
-اسمع، لا تجبرني على استعمال العنف، فهذا ليس في مصلحتنا معاً.
-لِمَ لن يكون في مصلحتي؟؟ليس هناك أعنف من السقوط في البحر كما سقطتُ.
-أقول لك بألاّ تُجبرني.
-لا أحد يرغمك على شيء. هل ما قمت به، قبل سنوات خلت، كان تنفيذاً للأوامر أم هو الواجب أم هو الانتماء الطبيعي؟؟
-لست مُجبراً على تقديم تفسيرات لك أو لغيرك.
-شخصيّاً، لست في حاجة إليها. ما قمتَ به كان لسبب واحد: لأنك لم تكن لتجرؤ على الرفض.
-من السّهل قول ذلك، في وقت كانت فيه زمام الأمور بيد آخرين.
-يا سلام، كلام رائع. أعترف بذلك.
تراخى النقيب فارّياس قليلاً وهو ما لوحظ على ضغط أوداجه.
-ألن تدعوني إلى منزلك الجميل هذا؟ لقد أخبرتك سلفاً أنّني لن أخبرهم بما حصل بيننا، وأنا متعوِّد على الوفاء بتعهّداتي.
رمقه فارّياس لأوّل مرّة، بنوع من الاحتجاج، بعدما لمح في عينيّ الرقم 19 شيئاً ما.
-حسناً، تفضّل.
-هذا ما يُعجبني. لن أخفيك أنّ في تصرّفك شيء من الشّجاعة.
وجد الرّقم 19 نفسه دون مقدمات، في غرفة معيشة بسيطة، مؤثّثة بشكل متواضع لا يخلو من سوء ذوق.
نادى فارّياس على زوجته: -"إِلْبيرا". فظهرت إِلْبيرا وكانت امرأة شابّة لا تخلو من جاذبية.
-هذا الصّديق، قال فارّياس بغصّة، ابن منطقتك...
-صحيح؟؟ سألت إِلْبيرا وفي عينيها فرح. هل أنت من توكمان أيها السّيد؟؟
-نعم يا سيّدتي.
-وكيف تعرّفتما إلى بعضكما؟
-حسناً، قال فارّياس، كنّا نلتقي منذ وقت طويل.
-نعم، قبل بضع سنوات. قال الرّقم 19.
تحدّثوا لبعض الوقت عن الثّيران المفقودة والتي وجدها أصحابها فيما بعد. ثمّ دخل الأولاد
ووزّع عليهم الرّقم 19 القُبل وسألهم الأسئلة المعتادة.
-هل أنت متزوج؟ سألت إِلْبيرا.
-أرمل.
-آسفة.
-توّفيت زوجتي قبل خمس سنوات. ماتت غرقاً.
-يا للهول. أكان ذلك في الشّاطئ؟
-بالقرب من أحد الشّواطئ.
ساد بعد ذلك صمت جليدي، إلى تدخل فارّياس.
-هيّا يا أولاد. حان موعد القيام بواجباتكم، هيّا لقد تأخّر الوقت.
-وهل تعيش بمفردك يا سيّدي؟ سألت إِلْبيرا.
-نعم، بالطبع.
لم تسأله عن أطفاله مخافة أن يكونوا هم أيضاً في عداد الأموات. بحركة ميكانيكيّة تقريباً، كمن يريد أن يقوم بشيء لا غير، نفض الرّقم 19 أطراف بنطاله:
-حسناً، لا أُريد أن أكون ضيفاً ثقيلاً، كما أنه يتوجّب عليّ أن أكون في "ساحة إيطاليا" على السّاعة السّابعة.
انتاب الرّقم 19 إحساس غريب حين ضغط على يد إِلْبيرا، التي اقتربت منه أكثر وطبعت قبلة على خدّه.
-آسفة بشأن ما حصل لزوجتك.
-هيّا!!  قال فاريّاس وهو على وشك أن ينفجر غيظاً.
-نعم، هيّا بنا. قال الرّقم 19 بهدوء.
رافقه صاحب البيت حتّى باب الحديقة الحديدي، ثم نظر إليه ملّياً وبشكل مفاجئ وبدون مقدمات، انفجر باكياَ. كان بكاءً جارفاً، لم يجد الرّقم 19 ما يفعله حيال وضع لم يكن ضمن مخطّطاته.
ثمّ توقف البكاء بغثة، وقال فارّياس دونما كلفة وهو يصرخ:
-أنت شبح، نعم أنت مجرّد شبح، هذه هي الحقيقة.
ابتسم الرّقم 19 بتفهّم وكان على أتمّ الاستعداد لتقديم تنازلات وقد رفع الكلفة بدوره:
-بالطبع يا فتى، أنا شبح. أخيراً اقنعتني. امسح دموعك الآن واذهب لتبكي على كتف زوجتك، لكن لا تقل لها بأنّني شبح؛ لأنّها لن تصدّقك.
 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ماريو بنديتي شاعر وروائي وقاص وناقد أوروغواياني (1920-2009). النّص مأخوذة من المجموعة القصصية "صندوق بريد الزّمن" الصادرة سنة 1999 عن دار نشر ألفاغوارا (اسبانيا).

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا