التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الحــَــــــــــــــــــــلّ

قصة: خوليو رامون ريبيرو (البيرو)*
Julio Ramón Ribeyro 1929-1994

ترجمة: توفيق البوركي(المغرب)

- حسنا يا أرماندو، لنرى ماذا تكتب حاليا؟
ها قد حل السؤال الذي يخشاه. كانوا قد انتهوا للتو من تناول وجبة العشاء وهم الآن جالسون في الصالة الخارجية لاحتساء فنجان من القهوة. عبر النافذة المواربة تظهر أعمدة الإنارة وسحب الشتاء القادمة من الساحل.
- لا تدٌعي عدم الفهم، أصر أوسكار، فأنا أعرف أنكم معشر الكتاب لا يروق لكم، أحيانا، الحديث عن مشاريعكم الإبداعية. لكن فلتمنحنا هذا السبق فنحن أهل ثقة.
تنحنح أرماندو وهو ينظر ناحية بِيرتَا ولسان حاله يقول يا لهم من أصدقاء ثِقال، لكنه في الأخير أشعل سيجارة وقرر أن يجيب.

- حاليا أكتب قصة عن الخيانة، كما ترون فالموضوع ليس بجديد، لقد أسال مدادا غزيرا، ولكم أن تتذكروا روايات من قبيل "الأحمر والأسود"، "مدام بوفاري"،" آنا كارنينا"; واستعرضت لكم فقط الأعمال العظيمة. لكني أحس بميل شديد لكل ما هو مستهلك، روتيني ولا يتصف بالأصالة، وقد اقتبست بالمناسبة وبتصرف جملة لكلود مونييه:"أنا لا أهتم بطبيعة المواضيع بقدر ما تهمني العلاقات التي أنسجها معها"، بِيرتَا من فضلك هلاٌ أغلقت النافذة؟ فالضباب يتسلل إلى الداخل.
- لا يبدو تقديما سيئا، قال كارلوس، فلندخل في صلب الموضوع.
- حسنا، يتعلق الأمر بشخص اكتشف بشكل مفاجئ أن زوجته تخونه، أقول بشكل مفاجئ، لأن فكرة الخيانة لم تخطر بباله إطلاقا خلال العشرين سنة التي مرت على زواجهما. فقد كان لهذا الشخص، سأسميه خوان أو بيدرو ولكم حرية الاختيار بين الاسمين، ثقة عمياء في زوجته وقد سمح لها أيضا أن تكون لها حياتها الخاصة دون أن يطالبها بشيء، كونه إنسانا ليبراليا وحداثيا.
- يا له من زوج مثالي، قالت إِيرما، هل تسمعني يا أوسكار؟
- مثالي، نعم، واصل أرماندو حديثه، كما قلت فبيدرو-هكذا سنسميه- بدأ يشك في وفاء زوجته، ولن أدخل في تفاصيل وأسباب هذا الشك. المؤكد أنه لما حصل الأمر أحس بالعالم ينهار فوق رأسه، ليس لوفائه الدائم لزوجته، باستثناء مغامرات صغيرة مرت دون عواقب، لكن بسبب حبه العميق لها، حب دائم دون حماسة الشباب، فيه من التفهم والاحترام والتسامح وكل تلك الأمور التي تتوّلد عن الرتابة والتي تتأسس عليها الحياة الزوجية.
-الرتابة تقتل الحب، لهذا لا أحبذها. قال كارلوس
- ممكن، رد أرماندو، على الرغم من ذلك فهي تبقى جملة كغيرها من الجمل. دعوني أتمم حديثي، كما أسلفت القول، فبيدرو يشك في خيانة زوجته، وبما أنه مجرد شك مؤلم قد يحتمل الخطأ، قرر البحث عن الدليل. وفي طريق بحثه عن تلك الدلائل اكتشف خيانة ثانية أكثر خطورة وأقدم زمنا من سابقتها وأكثرها إثارة.
- ما فحوى هذه الدلائل؟ تساءل أوسكار، فدليل وقوع الخيانة صعب الحدوث.
- فلتعتبرها رسائل، صور، شهادات من أشخاص ثقاة. لكن هذه الأمور ثانوية الآن. ما هو مؤكد، أن بيدرو أُصيب بإحباط شديد. فلم يعد هناك مجرد عشيق واحد بل هما الآن عشيقان اثنان: الأول الذي يشك فيه والثاني الذي يعتقد أنه يمتلك عنه الدليل. ثم إن المسألة لم تنحصر عند هذا الحد، فأثناء مواصلته لتحرياته، اكتشف وجود عشيق ثالث قاد بدوره إلى ظهور آخر رابع.
- تريد القول أننا في حضرة "الأميرة ميسالينا"، تدخل كارلوس، كم كان عددهم إذن؟  
- سأكتفي بالأربعة، فهو الرقم الذي أريد. بالإمكان زيادة العدد لكن سأصادف مشاكل عند الكتابة.
حسنا إذن، فلزوجة بيدرو أربعة عشاق في نفس الآن، وهذا لا يثير استغرابا، فالأربعة يختلفون عن بعضهم(فأولهم أصغر سنّا منها، وثانيهم أكبر سنّا، وثالثهم مثقف ورقيق ورابعهم جاهل الخ). بمعنى أنهم يلبون رغباتها الجسدية والروحية. 
- وماذا فعل بيدرو؟ تساءلت أماليا.
- تصورا معي حاله وقد تملّكه الغم والغضب والغيرة، لقد خصّصت صفحات من القصّة لتحليل ووصف حالته النفسية وسأحتفظ بها، وسأقول فقط بأنه استطاع كبح جماح أحاسيسه بفضل قوة إرادته وعزيمته وانتهى إلى البحث بمفرده عن حل لهذا المشكل.
- هذا ما نودّ معرفته. قال أوسكار
- حتى أكون صادقا، فأنا بدوري لا أعلم. القصة لم تنتهي بعد، أظن أن بيدرو قد طرح خيارات عدة لكنني أجهل أيا منها سيختار.
بيرتا من فضلك، هلاّ ناولتني قدحا من القهوة؟ لكن على العموم وكما يقال عندما يعترض طريقنا عائق ما وجب القضاء عليه لتعود المياه إلى مجاريها. إلا أن الأمر لا يتعلق بعائق واحد بل بأربعة. فلو كان مجرد عشيق واحد لما تردد في تصفيته.
- جريمة؟؟ تساءلت إيرما، هل بمقدور بيدرو أن يفعل ذلك؟
- جريمة، نعم. لكنها عاطفية، تعلمون جيّداً أن القوانين والتشريعات الجنائية في العالم بأسره تتضمن تدابير تخفيفية عند ارتكاب جريمة شرف، وبالخصوص في حال وجود محام مفوّه يُثبت بأن مرتكب الجريمة قام بفعلته في حالة انفعالية عنيفة. لنفترض أن بيدرو مستعد للمجازفة وتنفيذ الاغتيال وهو يعلم أن ملابسات الحكم لن تكون ذات خطورة كبيرة. لكن مقتل عشيق واحد لن يحل المشكلة، فسَيتبقى ثلاثة آخرون، واغتيال الأربعة سيكون جرما أشد خطورة. إنها مجزرة بما كل ما تحمله الكلمة من معنى قد تقوده إلى الإعدام. لهذا فقد استبعد بيدرو فكرة الجريمة.
- إنها جريمة الجرائم. قالت إيرما.
- معك حق. لقد خطرت له فكرة عبقرية: أن يتواجه العشّاق فيما بينهم بحيث يقتل بعضهم البعض. الفكرة كالتالي: هم أربعة، وستفهمون الآن لماذا الرقم أربعة، ستأخذ الأمور منحى إقصائي كما يحدث في المسابقات الرياضية. اثنان ضد اثنان وفي النهاية يلتقي الفائزان. هكذا يكون قد تخلّص من ثلاثة على الأقل.
- يبدو هذا روائيا، قال كارلوس. كيف سيقوم بذلك؟ يبدو صعب التطبيق على أرض الواقع.
- نحن فقط في عالم الأدب، عالم الاحتمال.  كل شيء يكمن في أن يصدق القارئ ما أحكيه له. وهذا شأني أنا.
حسنا، سيُقّسم بيدرو العشّاق  إلى الرقم واحد والرقم اثنان ثم الرقم ثلاثة فالرقم أربعة، وعبر رسائل مجهولة أو مكالمات هاتفية أو عبر وسائل أخرى سيكشف للعشيق الأول عن وجود الثاني وللثالث عن وجود الرابع. كل ذلك سيأخذ منحى تدريجيا يسمح له أن يوقظ في نفس الفاعل ليس فقط تلك الغيرة المخيفة وإنما أيضا الرغبة الجارفة في محو الغريم من الوجود.
نسيت إخباركم بأنّ عشاق رُوسَا، وهذا اسم الزوجة، يعشقونها حد الجنون حتى ظنّ كل واحد منهم أنه المشمول بحبها دون غيره. لذا فوجود كَمٍّ من المتنافسين سيربكهم كما هو الشأن بالنسبة لبيدرو.
- هذا ممكن، قال كارلوس، العشيق كالزوج عليه أن يكون أكثر غيرة من عشيق آخر.
واصل أرماندو حديثه:
- سيُدير بيدرو الخطة بشكل جيّد، فالعشيق رقم واحد سيقتل الرقم اثنان، في حين سيتكفل الثالث بتنحية الرابع. في المحصلة سيتَبقّى عشيقان، سيسلك معهما نفس الطريقة بحيث يتقاتل الأول مع الثالث، والناجي منهما سيتخلص منه بيدرو بنفسه، بمعنى أنه سيرتكب جريمة واحدة، وكونها جريمة واحدة وعاطفية فسيتمتّع بحكم مخفّف. هكذا يكون قد حقق ما خطط له لإزالة العراقيل التي تعترض طريق حبّه.
- تبدو فكرة مذهلة، علّق كارلوس، لكني مصرّ على عدم واقعيتها. لنفرض أن الرقم واحد لم يتمكن من قتل الثاني واكتفى بجرحه فقط، أو أنّ العشيق الثالث، رغم حبه الكبير لرُوسَا، ليس بمقدوره ارتكاب الجريمة.
- معك حق، قال أرماندو، ولهذا السبب سيقرر بيدرو التخلي عن هذا الحل. هذه الفكرة غير ممكنة لا في الواقع ولا في عالم الأدب.
- وماذا فعل إذن؟ تساءلت بِيرتَا
- بدوري لا أدري، القصة لم تنتهي بعد كما أخبرتكم من قبل. لهذا أحكيها لكم الآن. ألم تخطر ببالكم فكرة ما؟
- نعم، لم لا يلجآن إلى الطلاق. أجابت بِيرتَا
- فكرت في هذا الحل. لكن ماذا سيجني من وراءه؟ لا شيء سوى الفضيحة، خصوصا في مدينة متخلّفة كهذه. الطلاق لن يحل المشكلة، ثم إن رغبة الانتقام لدى بيدرو تبقى قائمة. إذن فهو ليس حلا مثالياً.
- بَيد أنني فكرت جيّدا في حلّ آخر:
سيطرد بيدرو زوجته، بعد أن يواجهها بخيانتها له. هكذا بقسوة سيتركها في الشارع مع حقائبها أو بدونها. سيكون حلاً يحفظ له رجولته ومبررٌ أخلاقياً.  
- فكّرتُ في هذا الحل بدوري، قال أوسكار، فيه إثبات للرجولة، بما أنك خُنتني، خذي هذا جزاؤك. فلتتدبري أمرك إذن.
- ليس الأمر بهذه البساطة، واصل أرماندو، أعتقد أن بيدرو لن يختار هذا الحل، والسبب الرئيس أنه لن يتحمل طرد زوجته، بما أن رغبته هي الإبقاء عليها أما طردها فسيجعلها أكثر تشبثا بعشّاقها، وبالتالي ستبتعد عنه أكثر. بيدرو يرى أن الحكمة تقتضي العكس.
- ماذا تقصد؟ تساءلت إيرما
- يغادر هو المنزل، يختفي دون أثر. قد يترك رسالة أو لا يترك شيئا. ستتفهّم الزوجة سبب اختفاءه. قد يسافر إلى بلد آخر بعيد ويبدأ حياة جديدة مختلفة. سيتزوج امرأة أخرى ويختار عملا آخر ويكون صداقات جديدة. لكن لنفترض أن لدى الزوجين أبناء، رغم أنني أفضل العكس لأن وجود أبناء سيُعقّد القصّة. عل كلٌ بيدرو سيُغادر وسيتخلى عن أبناءه أيضا. فالعشق يبقى أسمى من عاطفة الأبوة.
- رحل بيدرو إذن، وماذا بعد؟ تساءلت إيرما
- لا يا بِيرتَا، بيدرو لم يرحَل. الرحيل ليس حلاً مثالياً. ماذا سيربح من وراءه؟ لا شيء. بل سيخسر كل شيء.
لو افترضنا أن رُوسَا تعتمد على زوجها ماديّا، لا اعتبرنا غيابه سببا لمعاناتها. ثم إنني نسيت أن أخبركم، روسا تمتلك ثروة شخصية(أبوين غنيين، ممتلكات عائلية أو شيء من هذا القبيل)، معنى هذا أنّ بإمكانها أن تستغني عن زوجها.
من جهة أخرى، بيدرو لم يعد شابّاً وسيكون من الصعب عليه بداية حياة جديدة في بلد آخر. رحيله إذن سيخدم مصالح الزوجة، التي ستتحرّر من قيود الزوجية لتقوم بكل ما يحلو لها. لكن لو افترضنا أنّ بيدرو استطاع الاستقرار والنجاح في مدينة بعيدة، فذكرى زوجته الخائنة ستلاحقه دوما لتُنغّص عليه حياته.
- صحيح، قالت أماليا، تبدو فكرة الاختفاء، هذياناً ليس إلا.
- هناك رواية أخرى بديلة عن الاختفاء، وقد أغوتني كثيرا. لنقل بأن بيدرو عِوض اختفاءه دون أثر، انتقل بكل بساطة إلى منزل آخر وانفصل عن زوجته بالتراضي بعد أن أوضح لها ملابسات ما جرى. ما الذي تتوقعون حدوثه؟ شيء يبدو لي ممكنا، نظريا على الأقل، لكنه يتطلب المزيد من العمل. هل تسمحون لي أن أواصل؟ أنا من الذين يعتقدون بتفوق العشيق على الزوج، ليس فقط فكرياً أو أخلاقياً أو إنسانياً بل جنسياً أيضا. ما يحدث هو أن رتابة الحياة تلوث العلاقة بين الزوجين وتُفرغها من قيمتها وتتداخل فيها مشاكل لا حصر لها، تكون سببا للخلافات الدائمة، قد تبدأ من تربية الأطفال إن وجدوا، والديون التي يجب سدادها والأثاث الذي يلزم تجديده، بل تمتد حتى لما سيتم تناوله في وجبة العشاء.
- بل والزيارات وطبيعة الضيوف. أضاف أوسكار
- بالضبط. إذن هذه المشاكل وغيرها تنتفي في علاقة المرأة بعشيقها، والتي ترتكز في الغالب على ما هو ايروتيكي فقط. يجمعهما سرير اللذة بعيدا عن مُنغصّات الحياة. في المقابل، فالزوج والزوجة يحملان انشغالاتهما إلى البيت ويتجادلان حولها، مما يجعل من التواصل العاطفي أمرا معقّدا للغاية !!
لذا، أقول بأن كل تلك العوائق ستختفي برحيل الزوج مما قد يفتح الباب أمام علاقة حب محتملة.
ما أريد الوصول إليه، أن هذا الانفصال بالتراضي سيحمل منفعة كبرى لبيدرو الذي سيتخلص من عبء المشاكل اليومية ويرمي بها في ملعب مُنافسيه، الذين سينتهي بهم الأمر إلى تحمل مسؤولية الزوج، بينما بيدرو يتقمص دور العشيق.
رُوسَا بعد أن تعيش عن قرب مع عشّاقها، بفضل حيلة بيدرو الذي لم تعد تراه إلا لماما، سينقلب الحال رأسا على عقب وسينال العشّاق الأشواك بينما يقطف بيدرو الورود.
تدخل أوسكار قائلا:
- أحسنت القول، تبادل الأدوار، بفضل خطة تراجع استراتيجية. لا تبدو فكرة سيئة. ما رأيكم؟ في رأيي أعتبرها الأفضل.
- لا، ليست الأفضل – رد أرماندو-  صدقوني أنا منزعج لذلك، فالكاتب مهما كان محايدا، له اختياراته وميولاته.
لو مرّت الأحداث بتلك السلاسة لكان الأمر مُذهلاً. لكن الحلّ السابق فيه نقائص كثيرة. رُوسَا لم تعد تحتمل بيدرو لا من قريب ولا من بعيد، زوجاً كان أم عشيقاً. كل ما له صلة به يثير اشمئزازها على الرغم من انفصالهما، ثم إن مجرد النظر إليه يكفي ليبعث في دواخلها كل أشباح تلك التجربة الحياتية. أما الزوج فيجر خلفه ثقل ماضيه الزوجي الذي يقف حجرة عثرة أمام اقترابه من زوجته كشخص غريب.
- يبدو أن جميع الاحتمالات قد نفذت -علّق كارلوس-. 
- هناك احتمال آخر. ببساطة أن لا يبدي أي ردّ فعل إزاء ما وقع، ويواصل حياته مع زوجته بشكل عادي. فهذا، برأيي، حل ذكي ولبق، ينمّ عن تفهم وواقعية ونوع من البراغماتية، والنبل وشيء من الحكمة. بمعنى أن بيدرو سيقبل، لا محالة، الانضمام إلى طائفة الديوثين اللامحدودة.
تدخل كارلوس معترضا:
- أنا لا اتفق مع هذا الطرح، رغم أنه يعكس سعة صدر، ولا يستند على أحكام مسبقة. لكنه شيء مخز وحاط من الكرامة.
ليس بمقدوري تحمُله.
رد أوسكار بدوره:
- و لا أنا. حَذارِ يا أماليا وخذي العبرة.
- أوه، يا لهم من أزواج. مُهرجّون حقيقيون. قالت أماليا.
 بالرغم من ذلك فلهذا الاقتراح ايجابياته –قال أرماندو بإصرار-
بيدرو سيتمكن من الاحتفاظ بزوجته وهذا هو الأهم، رغم أنها خانته وأضحت لغيره روحا وجسدا، ستبقى على مقربة منه وقد يحدث أن تجود عليه بلمسة شاردة. وفي هذه الحالة يكفيه وجودها، ولعمري إنه دليل رائع على حبّه لها. يستحق أن نرفع له القبعة احتراما.
- القبعة التي لن يستطيع بيدرو وضعها فوق رأسه الجميل – علق أوسكار- لا يبدو تقبل هذا الوضع أمراً جيّداً فالرضى بالإهانة ستنتقص من قيمته كرجل وكزوج.
رد أرماندو:
- ممكن، لكن لا زلت أعتبره حلا رصينا سيتطلب نوعا من سمو الروح. فالأفضل أن يكون الشخص تعيسا بجانب المرأة التي يُحب عل أن يكون سعيدا وهو بعيد عنها.
في الأخير، أجد أنه ليس اختيارا موفقا.
تدخل كارلوس قائلا:
- عليك الاعتراف بأن بطل قصتك متورط في مشكل عويص. ماذا تبقى له الآن بعد أن فشل في التماهي مع أي حل؟
- بقيت له وسيلة أخرى – أجاب أرماندو- الانتحار كحل سريع ومُشرّف.
رفضت النسوة الثلاث الأمر بالإجماع. فتدخلت إيرما في البداية:
- أوه لا، يا لي بيدرو المسكين، لقد وجدته إنسانا لطيفا. ماذا عنك يا بِيرتَا؟ تمتلكين قوة التأثير على أرماندو، أقنعيه إذن أن لا يقتله.
- لا أعتقد أنه سيقتله – ردت بِيرتَا- إذ ذاك ستتحول القصة إلى مجرد ميلودراما مبتذلة. ثم إن بيدرو ذكي بما يكفي ليفكر في الانتحار.
- لا أعتقد بذكائه – قال أوسكار- بعد كل ما حصل يبقى الأمر مجرد فرضية خاصة بك. الوضع معقد جدا والأفضل له: أن يُنهي مأساته برصاصة. ألا تعتقد ذلك أرماندو؟
- رصاصة – كرر أرماندو- لكن هل تحمل في طياتها حلاً للمشكلة؟ لا شيء. الانتحار في اعتقادي ليس هو المنشود. ليس لأنه نهاية ميلودرامية كما قالت بِيرتَا. أنا أعشق الميلودراما إلى أبعد الحدود وحياتنا في الأصل لا تعدو كونها جملة من المآسي المتعاقبة. إنه حل سيء كالاختفاء بلا أثر، وهو أخطر لأنه لا يتيح إمكانية العودة. فبيدرو لو رحل عن المنزل، يبقى لديه الأمل في العودة وإجراء الصلح مع زوجته. لكن لو انتحر! ! !
- هذا صحيح – قال كارلوس- أنا أفضل الاحتفاظ بتذكرة العودة دائما في جيبي. لكن الانتحار ليس حلاً غير معقول، ستنمحي ذكراه من هذا العالم ويختفي المشكل برمته.
- معك حق – قال أرماندو- سأعيد النظر في هذه الفرضية. رغم أن هناك بون شاسع بين إيجاد حل للمشكلة والهروب منها. من يدري، ربما قد يلاحقه ألمه العظيم حتى بعد الموت.
تثاءب أوسكار قائلا:
- بطلك هذا عنيد، أرى أنك لم تجد مخرجا لقصتك. أما نحن  فقد انصرم نصف الليل وغدا أمامنا عمل. الحل هو أن نذهب فورا.
- انتظر، لقد نسيت احتمالا آخر. قال أرماندو
- لا يزال في جعبتك المزيد؟؟ تساءلت بِيرتَا
- إنه أكثر أهمية وكان عليّ أن أبدأ به القصة. قد يصل بيدرو إلى خلاصة مفادها أن زوجته لم تخنه، وبالتالي فكل ما جمعه من دلائل كانت خاطئة. تعلمون جيدا أن الدليل القاطع، في شأن كهذا، هو ضبطها متلبسة بجرمها. عدا ذلك من صور ورسائل وشهادات يمكن استبعاده درءا لوجود سوء تقدير أو قد تكون الوثائق مزورة أو الشهادات مبنية على الحقد... والحقيقة أن بيدرو لا يمتلك حجة واضحة.
تدخل أوسكار:
- انتهيت؟؟ كان عليك أن تبدأ من هنا، غُصت بنا في دوامة مشكل غير موجود من أصله. هيا يا إيرما لنذهب.
- ألا تودون تناول قدح من الكونياك؟ تساءلت بِيرتَا
- شكرا، القصة التي حكاها أرماندو كانت مسليّة. أوسكار معه حق لقد تأخرنا كثيرا. في كل الأحوال، عندما نلتقي في المرة القادمة آمل أن تكون قد أتممت القصة وبإمكانك قراءاتها علينا يا أرماندو.
- أوه، إن القصص التي تهمنا في الغالب هي تلك التي لم نستطع إتمامها.. سأبدل جهدي لإنهائها وإيجاد حل جيّد لها.
- بِيرتَا، من فضلك، هلاّ أحضرت أشياءنا. قالت أماليا
- سأتكلف بالأمر-تدخل أرماندو- اتفقوا مع بِيرتَا وحددوا مكان لقاءنا القادم.
عاد أرماندو إلى داخل البيت، بينما بقيت بيرتا مع الزوجين منهمكين في تحديد موعد ومكان لقاءهم المرتقب. ثم تلا ذلك دوي طلق ناري سريع ومباغت قادم من داخل البيت، شلّ حركة الجميع.
- إنه طلق ناري – قال أوسكار-
هرولت بِيرتَا باتجاه الممر، في اللحظة التي ظهر فيها أرماندو يحمل حقيبة يد وشالا ومعطفا. كان ممتقع الوجه.
- غريب، إنها من الصدف التي تثير الحيرة، كنت أبحث عن حبة دواء فوق الصوان وصادف أن غيّرت مكان المسدس ولا أدري كيف انطلقت منه رصاصة اخترقت درج الطاولة لترتطم بالجدار.
- لقد أخفتنا كثيرا - قال أوسكار- هكذا تقع الحوادث، لذا لا تقترب أبدا من السلاح. كن حذرا في المرة القادمة.
- لا داعي للمبالغة، لم يحدث ما يثير الاهتمام. هيا سأرافقكم إلى الخارج.
في الخارج كان الطقس غائما، ودّع أرماندو ضيوفه وانتظر حتى ابتعدت السيارتان، ثم قفل عائدا إلى المنزل، أغلق الباب خلفه واتّجه إلى البهو حيث كانت بِيرتَا تهُمّ بأخذ منافض السجائر المتسخة إلى المطبخ.
- أنا متعبة الآن. غدا ستأتي الخادمة لتنظيف المكان وترتيبه.
- أما أنا فلا أشعر بالنوم الآن، سأعمل قليلا على القصّة. لقاء الليلة ولّد ليّ أفكارا جديدة. لم تخبريني بٍرأيك فيها، كيف وجدتها..
- من فضلك أرماندو، أنا متعبة الآن سنتحدث في الموضوع غدا.
انسحبت بيرتا لتنام، في حين توجّه أرماندو إلى مكتبه. بقي لفترة ليست بالقصيرة ينقح مسودة قصته، يشطّب سطرا ثم يضيف فكرة جديدة ثم يصححها. في الأخير أطفأ النور وانسل إلى غرفة النوم. كانت بِيرتَا نائمة على جنبها يغمرها ضوء الأباجورة. تأمل أرماندو شعرها الأشقر المنسدل على الوسادة وجيدها العاجي المثير وحركات أنفاسها تعلو وتنخفض أسفل اللحاف، ثم فتح درج الصوان وأخرج مسدسه وصوبه باتجاه عنقها وأطلق رصاصة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ  
خوليو رامون ريبيرو*:
ولد في مدينة ليما عاصمة البيرو في 31 أغسطس من عام 1929 ، هو أحد كتاب أمريكا اللاتينية المشهورين، وتعتبر قصصه في الأدب الأسباني، من كلاسيكيات الأدب المعاصر. كتب خوليو للمسرح، و كتب المقالات الأدبية وغيرها، لكنة برز كقاص في الدرجة الأولى.
درس ريبيرو الأدب والحقوق في الجامعة الكاثوليكية في البيرو، وانتقل إلي باريس عام 1960، حيث اشتغل بالصحافة، ومن ثم عمل كمستشار ثقافي وسفير لليونيسكو.
توفي سنة 1994. 
أهم ما يميز أسلوبه القصصي هو المحافظة على دهشة القارئ، فهو يضع شخصيات القصة في مواقف تجعله أسير حيرة غير متوجسة، ثم في اندهاش لا مفر منه. إن العالم الخيالي لدي ريبيرو ينزلق بشكل غير واعٍ تقريباً من خلف المشاهد والظروف التي عادةً تكون من الحياة الواقعية المنتمية للحياة اليومية في وضع يبدو في البداية بلا مفاجئات، لكنة في الحقيقة يقف على رمال متحركة، حيث تدخل المفاجئة في أي لحظة غير متوقعة من قِبَل القارئ، فتحكم علي الشخصية ولو بشكل ضمني، حالة القلق الدائم. فلا حقيقة لظهور الأمور وما يمكن أن يختفي في أي لحظة تحت نزوة ما للصدفة. يحمس ريبيبرو قارئة دائما لمشاركة ألعاب خياله البهلوانية.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا