التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الرقبـــــاء

الرقبـــــاء
قصة: لويسا بالينثُويلا
(1938-......)
-الأرجنتين-
ترجمة: لحسن الكيري*

يا لخوان المسكين. لقد أمسكوا به في ذلك اليوم، على حين غرة،  لم يستطع أن يتذكر أن ذلك الذي اعتبره علامة حظ لم يعد كونه، وبالعكس، نداء قدريا حتميا. تلك الأشياء تحدث كلما كان المرء قليل الحذر، وهكذا فإن الناس، رغم ذلك، لا يعيرون الأمر اهتماما في غالب الأحيان. لقد جعل خوانثيتو علامات الفرح تبدو عليه- أكثر من ذلك، الفرح شعور فيه من الإرباك ما فيه- عندما وصله، وبطريقة ما، عنوان ماريانا الجديد، التي تقيم الآن في مدينة باريس، وهكذا اعتقد أنها لم تكن قد نسيته أبدا.عندئذ جلس إلى المائدة، وبدون أن يفكر مليا، قام بكتابة رسالة. الرسالة. تلك الرسالة هي نفسها التي جعلت التركيز غائبا عنه في عمله نهارا وحرمته النوم ليلا( ما الذي، يا ترى، قد كتب في تلك الرسالة، ماذا يكون قد التصق بتلك الورقة التي بعثها إلى ماريانا؟(.

    يعلم خوان يعلم جيدا أنه لن تكون هناك أية مشكلة في نص الرسالة، فلا عيب يحتوي عليه ولا ضرر. لكن، ماذا عن الطرف الآخر؟.إن خوان يعلم ،كذلك، أنهم يفحصون الرسائل، يشتمونها، يتذوقونها يقرؤون ما بين السطور، انطلاقا من علامات الترقيم إلى التشطيبات الصغيرة غير المقصودة فيها. يعلم  كذلك أن الرسائل تنتقل من يد إلى أخرى عبر مكاتب الرقابة الرحبة، وأنه يتم إخضاعها لكل أنواع التفتيش، وقليلة هي تلك التي تنجو، أخيرا، لتواصل طريقها.على العموم فهي مسألة بضعة أشهر أو سنوات إن تعقد الأمر، لتبقى خلال هذا الزمن الطويل الحرية ولربما حتى الحياة في خطر، ليس فقط بالنسبة للمرسل ولكن للمرسل إليه أيضا.إن هذا هو ما يجعل صاحبنا خوان يعيش حالة من الندم العميق الشديد: أن يحصل مكروه ما لماريانا في باريس، ويكون هو المذنب.مارينا وحدها لا أقل ولا أكثر، والتي لربما تشعر بالأمن والاطمئنان هناك حيث حلمت بالعيش دائما.غير أن خوان يدري أن رجال القيادة السرية للرقابة يتحركون في كل أرجاء الدنيا، ويتمتعون بتسهيلات مهمة في النقل الجوي، وعليه فليس هناك ما يمنعهم من الوصول حتى إلى الحي الباريسي المظلم، كي يختطفوا ماريانا فيعودون وكلهم رضى بمهمتهم النبيلة على وجه هذه الأرض.
   يجب على المرء، إذا،  أن يكسب ودهم، وعليه وجب فعل ما يفعلون هم أنفسهم: محاولة الإمساك بخيوط اللعبة،  الوصول إلى أصل المشكل من أجل احتوائه.بتلك النية الخالصة تقدم خوان، مثله مثل الكثيرين، كي يشغل منصب رقيب.ليس بدافع الحب كما هو الشأن بالنسبة للبعض، ولا لقلة فرص العمل بالنسبة للبعض الآخر، كلا. لقد تقدم لذلك، فقط، كي يحاول اعتراض سبيل رسالته نفسها، وهي حتى وإن كانت فكرة مبتذلة ففيها ما فيها من العزاء. لقد أدمجوه  بالعمل فورا لأن الطلب كان متزايدا على الرقباء، يوما بعد يوم، ليس إلا.
    لم يكونوا ليجهلوا في القيادة العليا للرقابة السبب الخفي الذي يملكه أكثر من شخص كي يلج مصلحة التوزيع، غير أنهم لم يحملوا الأمر أكثر مما يحتمل، وإجمالا، لماذا؟.لقد كانوا يعرفون من ذي قبل، مدى الصعوبة التي يمكن أن يواجهها هؤلاء المساكين غير الفطنين كي يعترضوا سبيل الرسالة التي يبحثون عنها، ولنفرض أنهم تمكنوا من ذلك، فماذا تهم رسالة أو رسالتان اجتازتا الحاجز مقابل كل تلك الأخريات اللواتي سيعترض سبيلهن الرقيب الجديد، في الحين. وهكذا،  دونما قليل أمل، استطاع صاحبنا خوان أن يشغل منصبا في قسم الرقابة بوزارة الاتصالات.
    كانت البناية إذا نظرت إليها من الخارج، تبدو آية في الأناقة بالزجاج الملمع الذي يعكس السماء، وهذا المنظر يتعارض كليا مع الأجواء الفقيرة التي تسود داخلها.وخطوة خطوة، بدأ خوان يعتاد على جو التركيز الذي يتطلبه عمله الجديد، دون أن ينسى أنه كان يعمل ما في وسعه من أجل اعتراض رسالته - الموجهة إلى ماريانا- و هو ما أبعد عنه كل تعب ونصب. لم يعر الأمر اهتماما عندما نقلوه، في الشهر الأول، إلى الشعبةk حيث يتم فتح الأظرف بحيطة وحذر متناهيين، للتأكد من أنها لا تحتوي على أي مادة متفجرة تذكر.
   صحيح أن أحد الزملاء، وفي اليوم الثالث، بترت له رسالة يده اليمنى وشوهت له وجهه، لكن رئيس الشعبة زعم أن الأمر يتعلق بغياب الحيطة الدقيقة من طرف المتضرر، ليواصل خوان وباقي الموظفين العمل كسابق عهدهم، حتى وإن كانوا غير مطمئنين كفاية.بعدها حاول زميل آخر،إبان الخروج، تنظيم إضراب للمطالبة بزيادة في الأجر عن العمل الذي ينعته بغير الصحي، لكن خوان لم ينضم لذلك قط،وبعد أن فكر هنيهة، ذهب كي يبلغ أمر زميله إلى المسؤولين في مسعى منه كي يحصل على ترقية.
     المرة الواحدة لا تربّي في الإنسان عادة، هكذا قالها في نفسه وهو يهم بالخروج من مكتب الرئيس؛ وعندها نقلوه إلى الشعبة j حيث يتم فتح الرسائل بحذر شديد للتحقق من أنها لا تحتوي على أية مساحيق سامة، عندها شعر بأنه تخطى عقبة مهمة، ولهذا بإمكانه أن يعود إلى سابق عهده الطبيعي فلا يحشر أنفه في شؤون الآخرين.
   من الشعبة j، و نتيجة لأهليته، استطاع أن يحرق المراحل إلى أن وصل إلى الشعبة E حيث العمل هناك على درجة من الأهمية إذ تبدأ عملية قراءة وتحليل محتوى الرسائل. وفي تلك الشعبة ازداد أمله، كثيرا، في أن تقع يده على بعيثته نفسها التي وجهها إلى ماريانا، وبالنظر للزمان الذي استغرقه، كان سيكلفه ذلك قضاء وقت طويل جدا في ملحقات أخرى كي يصل إلى هذا المستوى. 
    مع مرور الوقت، بدأت تأتي عليه أيام يشتد فيها العمل فينهكه، بحيث كانت تكاد تسقط من ذهنه، بين الفينة والأخرى، فكرة المهمة النبيلة التي حملته إلى مصلحة البريد. في تلك الأيام كان يسطر بلون أحمر على فقرات طويلة، أو يرمي بدون رحمة، بالعديد من الرسائل إلى سلة المدانين.إنها لأيام خوف إزاء الأشكال الماكرة والخبيثة التي كان الناس يجترحونها من أجل بعث رسائلهم الثائرة، أيام من الحس المرهف الذي يستطيع من خلال عبارات من قبيل "لقد أصبح الجو متقلبا " أو"اشتعلت الأسعار" رصد يد حائرة لشخص ما ينتوي، في الخفاء، الإطاحة بالحكومة.
    أبدى خوان غيرة كبيرة فكانت المكافاة ترقية سريعة. لسنا ندري ما إذا كانت أسعدته.لقد كانت كمية الرسائل التي تصله في الشعبة B، يوميا، قليلة - عدد معدود من تلك التي تجتاز الحواجز المرسومة سلفا-، لكن في المقابل كان عليه أن يقرأها مرات عديدة وأن يفحصها بالمجهر وأن يتحرى أمر النقط الصغيرة جدا عن طريق الميكروسكوب الإلكتروني، وأن يرهف حاسة الشم بحيث إنه بمجرد ما يعود إلى منزله مساء يشعر بإرهاق شديد جدا. فقط كان ينتظر تسخين قليل من  حساء الحريرة ثم يأكل فاكهة ما ويرتمي في السرير من أجل النوم، وكله رضى عن أداء واجبه. كانت أمه الورعة هي من تنزعج، وهذا صحيح، حيث حاولت في غير ما مرة، دون جدوى، إرشاده إلى جادة الصواب. كانت تقول له، حتى وإن كان الأمر غير صحيح بالضرورة: لقد هاتفتك لولا، تقول إنها برفقة الفتيات في الحانة، لقد اشتقن إليك وإنهن لفي انتظارك.لكن خوان لم يكن ليريد معرفة المزيد أبدا، فكل أشكال الترفيه من شأنها أن تذهب بحدة حواسه وهو يريدها فطنة، حادة، نابهة ودقيقة من أجل أن يكون رقيبا بكل ما في الكلمة من معنى فيكتشف أمر الخداع. كان عمله خالصا للوطن ملؤه التفاني والرفعة.
   لقد أصبحت سلة الرسائل المدانة عنده الأكثر امتلاء ولكن الأكثر حساسية داخل قسم الرقابة كله.كاد يشعر بالاعتزاز بنفسه ويوقن أنه، وأخيرا، قد وضع نفسه في الطريق الصحيح، عندها وقعت بين يديه رسالته التي بعث بها إلى ماريانا.كما هو طبيعي، رماها في صندوق الرسائل المدانة دونما اشمئزاز.وكما هو طبيعي كذلك، فإنه لم يمنعهم من أن يعدموه فجرا، كضحية أخرى من ضحايا التفاني في العمل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كاتب ومترجم من المغرب.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا