قصة غييرمو مارتينث - الارجنتين
ترجمها من الاسبانية إلى الإنجليزية: ألبرتو مانغيل
ترجمة: عبدالله الحراصي*
«القرية الصغيرة جحيم فسيح»
مثل أرجنتيني
حينما تخلو البقالة من الزبائن، ولا تسمع فيها سوى طنين الذباب كثيراً ما يأتي على بالي ذلك الشاب الذي لم نعرف اسمه على الإطلاق والذي لم يذكره أحد في البلدة مرّة أخرى. ولأسباب لا أستطيع تفسير كنهها كنت دائماً أتذكره بهيئته التي رأيناه فيها لأول مرّة: بملابسه المغبرّة، وبلحيته المنفوشة، وعلى الأخص بشعره الأشعث الطويل الذي غطى عينيه تقريباً. ولأن الوقت كان مطلع الربيع فقد ظننت أنه كان شخصاً متجهاً جنوباً لأجل التخييم. أخذ بعض علب الطعام وشيئاً من القهوة، وفيما كنت أعدّ فاتورة حسابه نظر إلى انعكاس صورته على النافذة، وأزاح شعره عن جبهته، وسألني إن كان هناك حلّاق في البلدة.
في تلك الأيام كان هناك حلاقان في بونتي فيجو. أدرك الآن بأنه له كان قد ذهب إلى محل ملخور العجوز لما التقى أبداً بالسيدة الفرنسية، ولما انتشر القيل والقال عنهما. إلا أن محل ملخور كان في الطرف الآخر من البلدة، ولم أكن أعلم الغيب فأحدس بما حدث بعدها.
وما حدث هو أنني أرسلته إلى محل سرفينو، ويبدو أن السيدة الفرنسية جاءت فيما كان سرفينو يحلق له شعره. نظرت السيدة الفرنسية إلى الشاب بذات الطريقة التي تنظر بها إلى كل الرجال، وهنا بدأت القصة اللعينة، حيث أن الشاب قرر أن يقيم في البلدة، وكلنا فكرنا في الأمر ذاته: أنه بقي بسببها.
مرّ عام منذ أن جاء سرفينو وزوجته إلى بونتي فيجو، ولم نعرف الكثير عنهما، ولم يكونا يختلطان مع أي أحد في البلدة، وهو أمر كان يتحدث عنه كل سكان البلدة بحنق وغضب. وحتى لا نظلم الناس فإن انعزال سرفينو لم يكن مرده إلا إلى الخجل، أما السيدة الفرنسية فلعلها كانت في غاية التكبر والعنجهية. جاءا من المدينة الكبيرة الصيف الماضي، في بداية الموسم، وحينما فتح سرفينو محل الحلاقة أتذكر أنني ظننت أنه سوف يضر بعمل ملخور العجوز لأنه كان يحمل دبلوما في الحلاقة، كما أنه فاز بجائزة في مسابقة الحلاقة القصيرة، وكان في محله مجفف شعر وكرسيّ دوّار، وكان يرشّ خلاصات الخضار في فروة رأس الزبون، بل أنه كان يرش بعض اللوشن عليك إن لم تطلب منه الكفّ عن ذلك. كما أنك تجد دائماً في الرفّ في محل سرفينو أحدث المجلات الرياضية، وفوق هذا كله كانت هناك السيدة الفرنسية. والحقيقة أنني لم أعرف قط لماذا سماها الناس السيدة الفرنسية، ولم أحاول أبداً معرفة ذلك– ولو حاولت لكنت سأشعر بخيبة الأمل حينما أعرف أن السيدة الفرنسية قد ولدت على سبيل المثال في باهيا بلانكا، بل والأدهى والأمر أنها ولدت في بلدة صغيرة مثل هذه البلدة. وأيا كانت حقيقة الأمر فاني لم ألتقِ بامرأة مثلها. لربما كان سبب الجلبة حولها هو أنها لم تكن تلبس صِداراً، بل انها حتى في الشتاء لم تكن ترتدي أي شيء تحت سترتها. وربما كان هذا بسبب ظهورها المعتاد في محل الحلاقة مرتدية أقل الملابس ووقوفها أمام المرآة لتضع مساحيق التجميل على وجهها، أمام أعين الجميع. غير أن الأمر لم يكن له علاقة بهذا كله. كان هناك أمرٌ يتعلق بالسيدة الفرنسية أكثر إرباكاً من جسمها الذي بدا دائماً مثيرا في الملابس التي كانت ترتديها، بل أكثر إثارة من انخفاض فتحة صدرها، فقد كانت تحدق في عينيك بثبات حتى أنه يكون أمامك إلا أن تخفض بصرك، وكانت عيناها تفيضان إغراءً، وتغمرانك بالأمل، غير أن عينيها كانتا يحملان أيضاً وميضاً هازئاً، وكأنما تمتحنك، وهي تعرف أنك لا تقوى على تحديها، وكأنها قد أيقنت بأنه لا يوجد في البلدة كلها من يستطيع أن يسمو إلى مستوى رغباتها الجامحة. كانت تثيرنا إذاً بعينيها، ثم، تسخر منا حينما تنسحب بعينيها.
كان كل هذا يحدث أمام سرفينو الذي لم يكن يبدو أنه كان يلاحظ أي شيء مما كان يحدث، فقد كان منحنياً خلف رقابنا مطقطقاً بمقصه في الهواء بين فينة وأخرى.
نعم. كانت السيدة الفرنسية تشكل في البداية أفضل دعاية لمحل سرفينو، وكان محله مزدحماً بالزبائن في الأشهر الأولى. غير أن الصواب قد جانبني فيما يتعلق بملخور، فلم يكن الرجل العجوز مغفلاً، بل أخذ يغري زبائنه القدماء فيعودون إليه شيئاً بشيء. فقد تمكن من الحصول على بعض المجلات الإباحية التي منعها العسكر في تلك الأيام، وحينما حلّ كأس العالم بعد ذلك جمع كل مدخراته واشترى تلفازاً ملوناً، وكان هذا أول تلفاز ملون في البلدة. ثم أخذ يقول لكل من يسمعه بأنه لا يوجد حلّاق للرجال في بونتي فيجو إلا حلّاق واحد لا غير، أما سرفينو فكان حلّاق المخنثين.
إلا أن حدسي يقول لي بأن الكثيرين عادوا إلى محل ملخور مرّة أخرى بسبب السيدة الفرنسية، حيث لا يستطيع إلا القليل من الرجال أن يقبلوا أن تهزأ منهم أمرأة أو أن تذلّهم لفترة طويلة.
وكما كنت أقول فقد بقي الشاب، إذ نصب خيمة في ضواحي البلدة، خلف الكثبان، ليس بعيداً من بيت أرملة اسبينوزا. ولم يكن يأتي إلى البقالة إلا نادراً، وحينما كان يأتي كان يشتري أغراضاً كثيرةً، تكفيه لمدة أسبوعين أو شهر. إلا أنه كان يزور الحلّاق في كل يوم.
ولأنه كان من الصعب تصديق أنه لم يكن يذهب إلى هناك إلا لقراءة الجرائد الرياضية فقد أخذ الناس يشعرون بالشفقة على سرفينو، فكان الجميع حزيناً لأجله في البدء. والحقيقة أنه كان من الصعب ألا تشعر بالحزن لأجل سرفينو، فوجهه كان وجه ملاك وابتسامته كانت بسيطة، كما هو حال الناس الخجولين دائماً. لم يكن يتحدث إلا قليلاً، وكان يبدو أنه يغرق في عالمٍ متعرج بعيد، وكانت عيناه تهيمان في الفضاء، وكان يقف لفترة طويلة، وهو يشحذ شفرة الحلاقة، أو يطقطق بالمقص لفترة طويلة، حتى أنك تضطر لأن تسعل كي تردّه إلى العالم الواقعي. باغته مرّة أو مرتين وهو يحدق في المرآة في السيدة الفرنسية بشغف صامت مكثّف، وكأنه هو نفسه لم يكن مصدقاً بأن هذه المرأة زوجته. كان تلك النظرات المغرمة التي لا شك في صدقها تملؤنا بالشفقة عليه.
في الجانب الآخر كان من اليسير علينا كذلك أن ندين السيدة الفرنسية، قبل كل شيء لأن رجال البلدة المتزوجين والعوانس الباحثات عن أزواج قد اتحدوا منذ البداية ضد فتحة صدرها المخيفة. غير أن العديد من الرجال كانوا ممتعضين من السيدة الفرنسية، خصوصاً أؤلئك الذين كانوا مشهورين بمهاراتهم في جذب النساء في بونتي فيجو مثل نيلسن اليهودي – أؤلئك الرجال الذي لم يتعودوا أن تتجاهلهم امرأة، فكيف بأن تأتي امرأة فتهزأ منهم وتتلاعب بهم؟
وحدث بأن كل أحاديث البلدة كانت تتجه في نهاية المطاف صوب المرأة الفرنسية وعشيقها الشاب، ربما لأن كأس العالم قد انتهى، ولم تتبق مواضيع يتحدث عنها الناس، أو لعله بسبب ندرة الفضائح في البلدة. وقد كنت أسمع من حيث كنت أجلس خلف طاولة الحساب في المحل نفس الحديث يتكرر ويتكرر: ما رآه نيلسن مرّة ذات ليلة على الشاطئ (كانت ليلة باردة، ومع ذلك فقد كانا عاريين وأكيد أنهما قد تعاطيا مخدرات لأنهما فعلا شيئاً ما بمقدور نيلسن وصفه، حتى بين الرجال أنفسهم وفي غياب النساء)، وما قالته أرملة اسبينوزا (بأنها من نافذة بيتها كانت دائماً ما تسمع ضحكاً وأنيناً يأتي من خيمة الشاب، وكان هذا صوت جسدين ملتصقين يتدحرجان)، وما أخبرنا العجوز الأكبر سناً في آل فيدال (ذات ليلة في محل الحلاقة، هناك أمامه وأمام سرفينو ....). ترى من يعرف مقدار الصدق في كل هذا القيل والقال!!
وذات يوم أن عرفنا بأن الشاب والسيدة الفرنسية قد اختفيا. أعني أن الشاب لم يعد يظهر أبداً، ولم يرَ أحدٌ السيدة الفرنسية لا في محل الحلاقة ولا في الممشى على الشاطئ حيث اعتادت المشي. كان أول ما تبادر إلى أذهاننا أنهما هربا معاً. والعجيب أن النساء أبدين استعداداً لمسامحة السيدة الفرنسية على فعلتها هذه، ربما لأن فكرة الهروب فكرة رومانسية أو لأن تلك سيدة الإغواء الخطرة لم تعد موجودة. كن يقلن بأن من الواضح أن هناك شيئاً خاطئاً في ذلك الزواج، فقد كان سرفينو أكبر منها كثيراً، كما أن الشاب كان بالغ الوسامة ... وبقهقهات مكتومة يعترفن بأنهن كن سيهربن مثلها لو كنّ مكانها.
وفي عصر أحد الأيام حينما كانت النساء يتحدثن عن هذا الموضوع قالت ارملة اسبينوزا التي تصادف وجودها في محل البقالة بصوت غامض بأنها تعتقد بأن شيئاً أخطر بكثير قد حدث، فقد كان الشاب كما نعرف جميعاً قد نصب خيمته بالقرب من بيتها، وعلى الرغم من أنها، مثلنا جميعاً، لم تره لأيام إلا أن الخيمة ما زالت في مكانها، ويبدو من الغريب جداً – كررت «من الغريب جداً» – أنهما لم يحملا الخيمة معهما. قال أحد الحاضرين بأنه ينبغي إبلاغ الشرطة، ودمدمت المرأة بأنه من الواجب على أهل البلدة أن يراقبوا سرفينو كذلك. تذكرت أنني غضبت ولكني لم أعرف كيف أستجيب لما كان يدور من حديث: كان قانوني هو ألا أدخل في جدال مع الزبائن. بدأت بالقول بهدوء بأنه لا ينبغي اتهام أي انسان دون دليل، وبأني أرى بأنه من المستحيل أن يقوم سرفينو، بأن يقوم شخص مثل سرفينو بـ... غير أن الأرملة قاطعتني قائلة بأنه من المعروف بأن الناس الخجولين والانطوائيين قد يتحولون إلى أشخاص في غاية الخطورة إن تم التمادي في شيء ضدهم.
كان حديثنا يدور في حيص بيص حين ظهر سرفينو فجأة عند باب البقالة.
حلّ بالجميع صمت عميق: لا بد أنه عرف بأننا كنا نتحدث عنه، لأن الجميع خفضوا نظرهم أو نظروا في اتجاه آخر. رأيته وقد أحمر وجهه خجلاً، وبدا لي، أكثر من أي وقت سابق، مثل طفل عاجز لم يحاول أبداً أن يكبر. وحينما أعطاني طلبه لاحظت بأن قائمة الخضار والفواكه صغيرة وبأنه لم يطلب الروب. وحينما كان يدفع الحساب سألته الأرملة فجأة عن السيدة الفرنسية. أحمر سرفينو خجلاً مرة أخرى ، ولكن بهدوء هذه المرة، وكانه قد شعر بالتقدير من هذا الاهتمام الكبير. قال بأن زوجته قد سافرت إلى المدينة لتعتني بأبيها الذي كان مريضاً جداً، وأنها سرعان ما ستعود، ربما خلال أسبوع. وحينما كان يتحدث تسلل إلى وجوه الجميع شعور غريب، وجدت صعوبة في التعبير عنه في البداية: أنه الشعور بخيبة الأمل. وما أن غادر سرفينو حتى استأنفت الأرملة هجومها. قالت بأنها لا يمكن أن تصدق هراء سرفينو وخداعه، وأننا لن نرى تلك المرأة المسكينة مرّة أخرى. وبصوت خفيض أصرت بأن هناك قاتلاً طليقاً في بونتي فيجو، وأن أي شخص منا قد يكون ضحيته القادمة.
مرّ أسبوع، ثم تلاه شهر، ولم تعد السيدة الفرنسية. ولم يعد الشاب أيضاً. وبدأ أطفال البلدة يستخدمون خيمته في لعبة رعاة البقر والهنود الحمر، وانقسمت بونتي فيجو إلى معسكرين: معكسر المقتنعين بأن سرفينو مجرم، والمعسكر الآخر المكوّن منا نحن الذين كنا نعتقد بأن المرأة الفرنسية سوف تعود، وكان عددنا يتناقص ويتناقص. كنا نسمع بأن سرفينو قد قطع حلقوم الشاب بشفرة حينما كان يحلق له شعره، ومنعت الأمهات أطفالهن من اللعب في الشارع الذي يقع فيه محل الحلاقة وطلبن من أزواجهن الحلاقة عند ملخور. إلا أن الغريب أن سرفينو لم يكن محروماً من من الزبائن: كان الشباب يجرأون الواحد بعد الآخر على الذهاب والجلوس في كرسي الحلاق المدان ويطلبون الحلاقة بالشفرة، وأصبح إحدى رموز الرجولة أن يصفف الشباب شعرهم للأعلى عند سرفينو.
وحينما سألنا عن السيدة الفرنسية كان سرفينو يكرر على مسامعنا ذات القصة عن أبيها المريض، وهي قصة لم يعد يصدقها أحد. توقف الناس عن تحيته، وسمعنا بأن أرملة اسبينوزا قد أبلغت الشرطة بضرورة إلقاء القبض على سرفينو غير أن المفتش أجابها بأن الشرطة لا تستطيع فعل شيء إلا بعد العثور على الجثتين.
بدأ سكان البلدة يحزرون حول مكان الجثث، فقال البعض أن سرفينو قد دفن الجثتين تحت فناء داره، وقال آخرون أنه قد قطع الجثث إرَباً ورماها في البحر، وهكذا استحال سرفينو شيئا بشيء في خيال سكان البلدة إلى وحش يزداد خطورة يوماً بيوم.
وفي محل البقالة وعلى إثر سماع نفس الحديث مرة بعد أخرى بدأت أشعر برهبة خُرافية، وشعرت بأن كل هذه الأحاديث غير المنتهية سوف تحبل في نهاية المطاف بأمر فظيع. في الأثناء بدا وكأن أرملة اسبينوزا خرجت عن طورها وأصابها مس من الجنون، حيث أخذت في الحفر في كل مكان، مسلحة بمجرفة أطفال تافهة، وتصيح بأعلى صوتها أنها لن تشعر بالراحة إلا بعد العثور على الجثث.
وفي يوم ما، عثرت على الجثث.
كان عصر يوم من الأيام الأولى في شهر نوفمبر. دخلت الأرملة إلى المحل وسألت إن كان لدي أي مجارف، ثم وبصوت عالٍ يسمعه الجميع، قالت بأن المفتش قد أرسلها بحثاً عن المجارف وعن متطوعين لحفر الكثبان خلف الجسر. ثم أخذت تتحدث ببطء وتخرج كلمة بعد أخرى قائلة أنها رأت هناك بأم عينها كلباً يلتهم يداً آدمية. سرت رجفة في كل جسمي، ففجأة تحول الأمر إلى حقيقة، وفيما كنت أبحث عن المجارف وفيما كنت أقفل المحل كنت أسمع، دون أن أصدق حتى الآن، الحديث المرعب: «الكلب»، «الجثة»، «يد آدمية».
قادت الأرملة المسيرة، بفخر. كنت أمشي متثاقلاً في الخلف، حاملاً المجارف. نظرت إلى الآخرين ورأيت ذات الوجوه، الناس الذين كانوا يأتون إلى المحل لشراء الباستا والشاي. نظرت حولي ولم أجد أن شيئاً قد تغير، لا شعور بالرعب ولا صمت غير متوقع. كان عصر يوم مثل بقية الآيام، في نفس الساعة العقيمة الجدوى التي يستيقظ فيها الإنسان من قيلولته. تحتنا اصطفت البيوت في خط متناقص الطول، والبحر ذاته، على مبعدة، بدا ريفياً مستكيناً. لوهلة ظننت اني قد فهمت مشاعر عدم التصديق في داخلي، بأن شيئاً من قبيل هذا لا يمكن أن يقع هنا، ليس في بونتي فيجو.
حينما وصلنا إلى الكثبان، لم يكن المفتش قد عثر على شيء حتى الآن. كان يحفر مكشوف الصدر، وكانت مجرفته ترتفع وتهوي على الأرض بكل قوة. أشار إشارة مبهمة حوله، فوزعت المجارف وغرست مجرفتي في البقعة التي بدت لعيني الأسلم. لفترة لم يكن هناك أي صوت سوى صوت ضربات معدن المجرفة الجاف وهو يهوي على الرمل. بدأت أفقد خوفي من المجرفة وأفكر بأن الأرملة ربما تكون قد أخطأت، وبأن القصة التي أتت بها لم تكن حقيقية، حينما سمعنا صوت نباح هائج. أنه الكلب الذي رأته الأرملة. مخلوق مسكين هزيل الجسم يدور راكضاً هائجاً حولنا. حاول المفتش طرده برميه بقطع الطوب لكن الكلب كان يعود مرة وثانية وثالثة، بل كاد في لحظة من اللحظات أن يقفز ويمسك بخناق المفتش.
عندها أدركنا بأن هذا هو المكان بالفعل. عاد المفتش للحفر مرة ثانية، أسرع فأسرع. كانت حماسته مُعدِيَة، إذ تحركت المجارف في حركة منسجمة، وفجأة صرخ المفتش قائلاً بأنه قد هوى بمجرفته على شيء ما. حفر أكثر وظهرت للعيان الجثة الأولى.
لم ينظر الآخرون إلى الجثة إلا قليلاً، بل عادوا إلى مجارفهم، بحماسة، باحثين عن السيدة الفرنسية، غير أني ذهبت إلى الجثة وأجبرت نفسي على التدقيق فيها. بين عيني الجثة المليئتين بالرمال كان هناك ثقبٌ أسود. انها ليست جثة الشاب.
استدرت كي أنبه المفتش إلى هذا. كان الأمر مثل القفز إلى عمق عالم الكوابيس، فقد كان الجميع يخرجون جثثاً، وكأن الأرض تنبت جثثاً. ومع كل ضربة مجرفة كان هناك رأس يتدحرج من الحفرة أو جذع إنسان مُمَثَّل به. وأينما ذهبت ببصرك كانت هناك جثث ومزيد من الجثث، ورؤوس ومزيد من الرؤوس.
جعلني الرعب أركض من مكان لآخر، ولم أكن قادراً على التفكير، ولا على الفهم حتى رأيت إنساناً مخرماً بطلقات نارية، وبعيداً رأيت رأساً معصوب العينين. عندها أدركت الأمر. نظرت إلى المفتش فوجدته قد أدرك الأمر كذلك، وأمر الجميع بالبقاء في أماكنهم، وألا يتحركوا، وذهب إلى البلدة لأخذ أوامر رؤسائه.
في الوقت الذي ذهب فيه حتى رجع لم أتذكر إلا نباح الكلب المتواصل، ورائحة الموت، ومشهد الأرملة التي تحفر بمجرفة الأطفال بين الجثث، طالبة منا الاستمرار لأنا لم نعثر بعد على السيدة الفرنسية. حينما عاد المفتش كان منتصب القامة مهيباً مثل شخص على أهبة الاستعداد لتقديم الأوامر.
وقف أمامنا وأخبرنا بأن ندفع الجثث ثانية، مثلما وجدناها. عدنا جميعاً إلى مجارفنا، دون أن يجرؤ أحد على النطق ببنت شفة.
وعندما غطى الرمل الجثث تملكني شك في أن يكون الشاب من بين هذه الجثث. كان الكلب ينبح ويقفز ويهوي إلى الأرض كالمجنون. ثم رأينا المفتش، بركبة على الأرض، ومسدسه في يده. أطلق رصاصة واحدة. سقط الكلب ميتاً. ثم تقدم خطوتين، والمسدس في يده، ودفع جثة الكلب، كي ندفنها أيضاً. وقبل أن نعود للبلدة، أمرنا ألا نحدِّث أحداً عمّا رأينا، وكتب أسماء كل من كان هناك، واحداً واحداً.
عادت السيدة الفرنسية بعد عدة أيام، بعد أن شفي أبوها تماماً. ولم نذكر الشاب أبداً مرة ثانية، أما خيمته فقد سُرِقَت ما أن حلّ موسم العطل.
(نشرت الترجمة الانجليزية في مجلة «ذ نيو يوركر» عدد 27 ابريل 2009)
*كاتب وأكاديمي من عُمان
تعليقات
إرسال تعليق