التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الترجمة ضيافة.. لكنها ضيافة غريب

عبد السلام بنعبد العالي

الترجمة مشتل لغرس الفكر النقدي، والتمرّن على تذوّق طعم الكلمات، والإصغاء إلى نبرة الألفاظ، وإدراك لوينات المعاني، ولمس الفروق الدقيقة التي تميّز اللفظ عن شبيهه، وتفصل المعنى عن مثيله.
***
النصّ، بما هو كذلك، ما يفتأ يتكلم، وهو يتكلم لغات عدة. إنه يتمتع بنوع من الحركية، ويفصح عن الرغبة في الخروج عن ذاته، وهجرة موطنه وتغيير لغته.
***
كل نصّ سيترجم هو مبدئياً طرس شفاف. إنه كائن جيولوجي ملطخ بالأتربة، رغم أنه يسعى على الدوام لأن يبدو، شأن كل أصل، طاهراً نقياً وكأنه تخلّص من «سواده» وتحرّر من كل «طبقاته»، ونفض عنه جميع شوائبه.
***
الترجمة شهادة على البدايات المتكرّرة والمتعثّرة للأصل، ونوع من التّنقيب عن مسوّدات الكاتب الثاوية خلف مبيضته، فكأن مسعاها هو أن تعيد للنصّ مخاض ميلاده، فتنفخ فيه الحياة من جديد، وتلبسه حياة أخرى ولغة أخرى لتنقله إلى متلقّ آخر.

***
مهمة المترجم هي أن يسمح للنصّ بأن يُنقل من ثقافة لأخرى، وأن يمكّنه من أن يبقى ويدوم، بيد أن النقل لا معنى له إن لم يكن انتقالا، ولا الانتقال إن لم يكن تحوّلاً وتجدّداً، ولا التجدّد إن لم يكن نموّاً وتكاثراً.
***
تتيح الترجمة للنصّ بأن يكشف عن طاقاته ويفصح عن ممكناته. ذلك أنّ الأصل ما يفتأ يبدأ، ويعاود الصّياغة، وهو يُنسج «على التّراخي». فهو ليس نموذجاً قارّاً يتهّدده النّسخ فالمسخ، ولا اكتمالا سيلحقه النقصان، ولا بياضا سيعتريه السّواد، وإنما هو انفتاح على إمكانيات غير متوقّعة. إلى هذا المعنى يشير بورخيس عندما يؤكد أن النصّ لا يعتبر أصلياً إلا من حيث كونه إحدى المسوّدات الممكنة التي تعبّد الطريق لنصّ سيكتب بلغة أخرى.
***
ليست الترجمة هي النصّ الذي كان سيكتبه المؤلف لو أنه تكلم لغة المترجِم.
***
الترجمة إبداع في لغة أخرى، أو على الأصحّ إبداع في اللغة يحاول، انطلاقا من اللغة المألوفة، تلك التي نحيا فيها وبها، ونكون غارقين فيها، يحاول أن يعطي الحياة لِلُغة مغايرة يبدو ظاهريا أنها اللغة ذاتها، ولكنها تشكل «ما هو غائب عنها، مخالف لها اختلافا لا ينفك يحصل، ولا ينفك يختفي».
***
الترجمة: تحويل لغة بواسطة أخرى.
***
هناك ترجمة بحقّ عندما ننزع عن المتلقّي عاداته اللغوية.
***
الترجمة، إذ تفتح اللغة على خارجها، تمكّنها من أن تمتحن ذاتها على ضوء لغات أخرى، فتُعرّضها لامتحان تتلقى فيه دفعا عنيفا يأتيها مما هو أجنبي، وهو دفع من شأنه أن ينعشها ويحوّلها فيغير موسيقاها، ويطعّم قاموسها بمفهومات وألفاظ لا عهد لها بها.
***
بفعل الترجمة، لا تكتفي اللغة بأن «تجذب الأخرى وتأخذ منها وتعترض عليها»، كما كتب الجاحظ، وإنما تسعى أيضا لأن «تفضحها».
***
اللغة هي التي تُترجِم.
***
تتجاوز الترجمة المؤلف والمترجم معاً، بل إنها تتجاوز النصّ ذاته.
***
ليست الترجمة خلقاً للقرابة فحسب، وإنما هي أيضا تكريس للغرابة: إنها أداة لتمكين الثقافة من أن تمتحن ذاتها على ضوء الآخر، ووسيلة لتعريض الهوية لامتحان تتلقى فيه دفعا عنيفا يأتيها مما هو أجنبي. هذا الدفع هو الذي يجعل الهوية تشعر بالغرابة، لا أمام الآخر فحسب، بل أمام ذاتها كذلك. بهذا تغدو الترجمة وسيلة انفصال للثقافة عن نفسها وللغة عن ذاتها، وللأنا عن نفسه. وبهذا تصبح الترجمة مكرسة للاختلاف، مغذية للثقافة، منعشة للهوية.
***
الترجمة ضيافة، لكنها ضيافة غريب.
***
الترجمة عسيرة، بل متعذرة في بعض الأحيان، إلا أنّها ضرورية على رغم ذلك. فهي استحالة ينبغي اختراقها، وعقبات ينبغي تخطيها، وصعوبات تجب مواجهتها، ومحظور يتعيّن ارتكابه. ما ينبغي ترجمته هو بالضبط ما لا يقبل الترجمة، أي ما يُبدي تمنُّعا ومقاومة وعناداً وغرابة، ولأجل ذلك فهو لن ينفك عن الترجمة.
***
ما لا يقبل الترجمة ليس هو ما لن يترجم قط. ليس ما لا يمكن ترجمته، وإنما ما يمكن ترجمته بكيفية لامتناهية L’infiniment traduisible. إنه ما ما نفتأ نترجمه، أو ما ما نفتأ لا نترجمه على حدّ تعبير جاك دريدا C’est ce qu’on ne cesse pas de (ne pas) traduire
***
لا مفرّ للترجمة من أن تعلن انهزامها أمام ما تتعذر ترجمته، غير أن هذا الذي تتعذر ترجمته ليس مجرد مواجهة لصعوبات لغوية تنم عن ضعف المترجم وعدم تمكنه. إنه ما يشهد على غرابة وبعد ومسافة وغيرية، وبالتالي على امتناع عن الضم والابتلاع، معنى ذلك أن على الترجمة دائماً أن تعترف بالآخر كآخر.
***
كتب غوته: «لا ينبغي أن نخوض في عراك مباشر مع اللغة الأجنبية، ينبغي أن نتوصل إلى ما لا يقبل فيها الترجمة، وأن نبدي شيئا من الاحترام إزاءه، إذ في هذا تكمن قيمة كل لغة، ويتجلى طابعها الخاص. حينما نتوصل إلى ما تتعذر ترجمته آنئذ، وآنئذ فحسب، يدرك وعينا الأمة الأجنبية واللغة الأجنبية».
***
النصّ المترجم ما يفتأ يعلق بترجمته. كل ترجمة تظل شفافة لا تستبعد النص المترجََم ولا تصبح بديلاً عنه.
***
المنشورات مزدوجة اللغة، ليست نشرا للنص ولا نشراً لترجمته، وإنما نشر لحركة انتقال لا تنتهي بين «أصل» ونسخ. فهي إذاً لا تتوجه نحو قارئ لا يحسن اللغة الأصل، ولا نحو ذاك الذي يجهلها، وإنما نحو قارئ يفترض فيه لا أقول إتقان، وإنما على الأقل استعمال لغتين يكون مدعوا لأن يقرأ النص بينهما، قارئ لا ينشغل بمدى تطابق النسخة مع الأصل، وإنما قارئ مهموم بإذكاء حدة الاختلاف حتى بين ما بدا متطابقا، قارئ غير مولع بخلق القرابة، وإنما بتكريس الغرابة، قارئ يبذل جهده لأن يولّد نصا ثالثاً بعقد قران بين النصين وبين اللغتين.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

9 من أفضل روايات أمريكا الجنوبية ننصحك بقراءتها

من البرازيل وحتى المكسيك، من تشيلي لبيرو ومرورًا بكوبا والإكوادور، في تلك البلاد والمجتمعات التي عانت كثيرًا من الاستعمار وقاومت لعقود عبر عشرات الثورات، من تلك البلاد الساحرة والمجتمعات الثرية بالحكايات كان أدب أمريكا اللاتينية جديرًا بالتبجيل والانتشار . ذلك الجمال الأدبي الساحر، والقصص والحكايات الإنسانية التي أبدع كتاب أمريكا الجنوبية في نسجها. ومن آلاف الكُتاب وعشرات الآلاف من الكتب والروايات الساحرة المنتمية لتلك البيئة نرشح لكم تلك الروايات التسعة .

المترجم عمر بوحاشي: الترجمة من الإسبانية للعربية تعرف قفزة نوعية بفضل ظهور جيل من المترجمين وتحديدا في شمال المغرب

حاورته: إيمان السلاوي يكشف المترجم المغربي عمر بوحاشي، في هذا الحوار، آخر أعماله المترجمة التي تهم رواية "الكوخ" للكاتب الإسباني بيثينتي بلاسكو إيبانييث، وكذلك عن إصداراته الأخيرة، ويقدم رؤية عن واقع الكتب المترجمة من الإسبانية إلى العربية في المغرب التي يعتبرها ذات مستقبل واعد . والمترجم حاصل على جائزة الترجمة من المعرض الدولي للنشر والثقافة بالدار البيضاء سنة 2014، عن رواية بعنوان "لسيدة بيرفيكتا" للكاتب المخضرم، بينيتو بيريث غالدوس، يؤكد أن “الترجمة تخلق نوعا من التفاعل الثقافي، وفتح الحوار بين الحضارات، وتساهم في انفتاح الشعوب على بعضها لتتعارف أكثر”. ويعتبر بوحاشي من جيل المترجمين الذين نقلوا أهم الكتب الإسبانية التي ساهمت في تشكيل المغرب في المخيلة الإسبانية خلال العقدين الأخيرين. فقد ترجم رواية "عيطة تطاون" لبينيتو بيريث غالدوس التي تعتبر منعطفا في الروايات التي كتبت حول المغرب لأنها تميزت بواقعية لم يعتدها الإنتاج الأدبي الإسباني حول الجار الجنوبي للإسبان .

عرض لكتاب "رحلة في جماليات رواية أمريكا اللاتينية"

صدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق، 2007 تأليف د. ماجدة حمود   يجول هذا الكتاب عبر جماليات روايات من أمريكا اللاتينية، التي احتلت مكانا هاما في الساحة الثقافية العالمية، خاصة أن الباحث يحس بوشائج قربى مع هذا الأدب الذي يشاركنا في كثير من الهموم السياسية والاجتماعية والاقتصادية (التخلف، الاستبداد، الهيمنة الغربية...) ومع ذلك استطاع إبداع أدب أدهش العالم وما يزال! لهذا ليس غريبا أن يحصد أدباؤها كما كبيرا من الجوائز العالمية، قد منحت جائزة (نوبل) لشعراء (غابرييلا 1945، بابلو نيرودا 1971، أوكتافيو باث، 1990...) كما منحت لروائيين (ميغل أنخل أستورياس 1967، غابرييل غارثيا ماركيز 1982...) وقد رشح لهذه الجائزة أيضا كل (ماريو فارغاس يوسا) و (إيزابيل الليندي) بالإضافة إلى ذلك منحت جائزة ثرفانتس لعدد كبير منهم (كارنتيير 1977، بورخس 1979، أونيتي 1980، باث 1981، ساباتو 1984، فونتيس 1987، بوي كساريس 1990...) تحاول هذه الدراسة أن تجيب على التساؤل التالي: لِمَ تفوق هذا الأدب الذي ينتمي مثلنا إلى العالم الثالث، ووصل إلى العالمية رغم تخلف بلدانه؟ وقد اخترت تركيز الأضواء على جنس الرواية في أ...