التخطي إلى المحتوى الرئيسي

"مدن" منيف بالفرنسية.. بعد عقد من رحيله

باريس - أنطوان جوكي

في قلب الصحراء، وتحديداً في واحة "وادي العيون" (شرق السعودية اليوم)، تبدأ أحداث خماسية الروائي السعودي عبد الرحمن منيف (1933 ـ 2004)، "مدن الملح"، التي صدرت الترجمة الفرنسية لجزئها الأول، "التيه"، حديثاً عن دار "أكت سود". وهذا الإصدار الذي يُشكّل الخطوة الأولى في مشروع ترجمة العمل بكامله، ليس السبب الوحيد الذي يدفعنا اليوم إلى التوقف عنده، بل الرغبة في الاحتفاء بصاحبه بمناسبة مرور عقدٍ على رحيله.
وتحديدنا الفضاء الجغرافي لهذه الرواية، قبل أي شيء آخر، ليس عبثياً، بل للإشارة منذ البداية إلى أن الروائي الذي وُلد ونشأ في الأردن من أب سعودي وأم عراقية، كان يعرف عمّا يتكلم. فبعد دراسات عليا في الحقوق أنجزها في بغداد والقاهرة وباريس، استقر منيف في بلغراد حيث اختلط، في أجواء الجامعة، بشبان شيوعيين وحصّل دكتوراه في العلوم الاقتصادية متخصّصاً في مجال النفط.
ومسلّحاً بشهادته تلك، عاد إلى بغداد حيث التحق بوزارة النفط، قبل أن ينغمس في العمل السياسي بسرعة فيلتحق بحزب البعث، ليجد نفسه في النهاية في سجون صدام حسين. تجربة مريرة دفعته، بعد إخلاء سبيله، إلى الاستقرار في دمشق والبدء في كتابة قصصه ورواياته النقدية العنيفة التي تشكّل خماسيته "مدن الملح" قمّتها، كما تشكّل مشروعاً روائياً لا معادل له في الأدب العربي المعاصر، إن بحجمه (2446 صفحة) أو بأهمية المواضيع التي يعالجها.
فبعد "التيه" (1984)، أصدر منيف "الأخدود" (1984)، و"تقاسيم الليل والنهار" (1989)، و"المنبت" (1989)، و"بادية الظلمات" (1989). روايات كتبت بحبرٍ حارق ما لبثت أن جلبت له شهرةً واسعة في العالم العربي، مرفقةً بمتاعب مع السلطات السعودية التي منعت كتبه وسحبت منه جنسيته السعودية.
وفي حال أردنا تصنيف هذه الخماسية لقلنا إنها تنتمي إلى النوع الروائي الذي يُطلق عليه في الغرب تسمية "ساغا" (Saga). لكن بخلاف الروايات التي تندرج في هذا النوع، لا تسرد "مدن الملح" قدر عائلة واحدة على أجيال عدة، بل قدر شعبٍ برمّته، مانحةً إيانا صورة دقيقة عن التحولات الاجتماعية للجزيرة العربية على أثر اكتشاف النفط فيها. وتنطلق أحداث جزئها الأول إذاً في واحة "وادي العيون" حيث نتعرّف إلى قبيلة من البدو تعيش حياةً بسيطة وهانئة توقّعها الفصول والأعراس والولادات وعبور القوافل. حياة في حالة تناغمٍ مطلق مع محيطها الطبيعي، ترتكز بشكلٍ رئيس على الثقة برحمة السماء. من هنا صبر سكان الواحة في الأيام الصعبة التي تجفّ فيها الينابيع وتحرق الشمس الأخضر واليابس، وفرحهم حين تُستجاب صلواتهم ويهطل المطر. لكن فجأة تظهر مجموعة من الأميركيين حاملةً رسالة من أمير المنطقة إلى شيخ القبيلة تحضّه هو وسكان الواحة على استقبالها وتسهيل مهمتها التي تقتصر على الحفر بحثاً عن النفط. ومن بين جميع أفراد القبيلة، شخصٌ واحد فقط - معروف بشجاعته واستقامته- هو متعب الهذال، سيقاوم هؤلاء الدخلاء ويثور ضد مشروعهم، قبل أن يضطر في أحد الأيام، أمام زحف آلياتهم التي ستزرع الرعب في قلوب سكان الواحة، إلى امتطاء جمله والتواري في الصحراء، والبندقية في يده، تاركاً خلفه زوجته وأولاده؛ ما سيحوّله إلى شخصية أسطورية، تماماً مثل جدّه ووالده قبله اللذين حاربا الأتراك وحوّلا الطُرُق التي تقود إلى الجزيرة العربية إلى جحيم حقيقي.
وفعلاً، سيظهر متعب، بعد فترة من الزمن، لابنه شعلان على طرف مخيّم الأميركيين، ثم لابنه الصغير فوّاز في واحة مشتى القريبة من وادي العيون، بدون أن نتأكد إن كان هذا الظهور حقيقياً أو متوهماً. لكن ذلك لن يمنع الأميركيين من تدمير وادي العيون كلياً وطرد سكانها، فتنتقل عائلة متعب إلى واحة مجاورة، تاركةً شعلان خلفها. أما فوّاز وابن عمه صويلح فيقرران بعد فترة العودة على أمل العمل مع الأميركيين. لكن في طريقهم إلى الواحة، يلتقيان بشيخ القبيلة الرشيد، حليف الأميركيين والمستعد لأي شيء من أجل إرضائهم، بما فيه خيانة أبناء قبيلته ومبادئ أجداده، فيقودهما إلى بلدة حرّان الساحلية للعمل في مشروع أميركي آخر.

ويرصد منيف بقية الرواية لوصف التطوّر السريع الذي ستشهده هذه البلدة على خلفية شعور بالغبن والحرمان سيعاني منه أبناؤها والعمّال الذين قدموا إليها. ففي طرفة عين، تنبثق مدينتان متجاورتان: حرّان الأميركية التي تتوفرّ فيها جميع عناصر الرفاهية، وحرّان العربية حيث يعيش أصحاب الأرض في أكواخ خشبية بائسة للعمل في مشروعٍ لن يلبث أن يدمّرهم، تحت إمرة أجانب يحتقرونهم، قبل أن يثوروا في النهاية ويستعيدوا كرامتهم واعتزازهم بأنفسهم.
وخلف هذا النوع الجديد من الاستعمار، الذي لا يمكن إلا أن يذكّرنا بأعمال أدبية شهيرة، كروايات فولكنر في أميركا وروايات شينوا أشيبي في إفريقيا، يتراءى لنا على طول الرواية نكران القيم والألم والتمزّق الهوياتي، وبالتالي مأساة سكان واحات الجزيرة العربية في النصف الأول من القرن الماضي، وفقدانهم لأرضهم وطمأنينتهم ونظام عيشهم، واختبارهم لحياة مزيّفة وملعونة تسير على حبلٍ مشدود فوق هاوية.
وبحبكه تدريجياً، وبلا انقطاع، تفاصيل كثيرة كاشفة، يعرّي منيف ببراعة الحالات النفسية الناتجة عن التغيّرات الموصوفة ومحرّكات السلوك البشري. ومع أنه يصوّر بلا مواربة دهشة شخصياته أمام ابتكارات الغرب المتقدّم صناعياً وتكنولوجياً، كالسيارة والتلفون والراديو وآلات الحفر وضخّ النفط؛ لكنه لا يقع إطلاقاً في فخ مديح الغرب أو في مقارنات ساذجة، كما لا يقع أبداً في تجربة التقليل من قيَم العرب المقدّسة، كالتعلّق بالأرض وبالتقاليد. بالعكس، نراه يقابل رموز الحداثة والجشع والسعي خلف الربح السريع اللذين أثارهما اكتشاف النفط، بهذه القيَم التي تشكّل في نظره المرجع الأسمى.
باختصار، نصٌّ ملحمي بنفَسه القوي والمتسارع الذي تسيّره لغة أنيقة، واقعية بقدر ما هي شعرية، وبالمناخ الذي ينجح صاحبه في إحلاله من خلال وصف تحوّلات المكان التي حصلت على إيقاع حاجات شركات النفط. وبمواكبته هذه التحوّلات الكبيرة والمؤلمة، ينجح منيف أيضاً في فضح العدوان الذي مورس على تاريخ المكان وتاريخ سكّانه.
تبقى إشارة أخيرة إلى الجهد الجبّار الذي وضعته المترجمة القديرة فرانس ميير لنقل هذه الرواية الضخمة إلى الفرنسية، وإلى الشغف الذي أثبتته في عملها ويتجلى خصوصاً في عدم شعورنا، لدى قراءته، بأننا أمام نص مترجم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

9 من أفضل روايات أمريكا الجنوبية ننصحك بقراءتها

من البرازيل وحتى المكسيك، من تشيلي لبيرو ومرورًا بكوبا والإكوادور، في تلك البلاد والمجتمعات التي عانت كثيرًا من الاستعمار وقاومت لعقود عبر عشرات الثورات، من تلك البلاد الساحرة والمجتمعات الثرية بالحكايات كان أدب أمريكا اللاتينية جديرًا بالتبجيل والانتشار . ذلك الجمال الأدبي الساحر، والقصص والحكايات الإنسانية التي أبدع كتاب أمريكا الجنوبية في نسجها. ومن آلاف الكُتاب وعشرات الآلاف من الكتب والروايات الساحرة المنتمية لتلك البيئة نرشح لكم تلك الروايات التسعة .

المترجم عمر بوحاشي: الترجمة من الإسبانية للعربية تعرف قفزة نوعية بفضل ظهور جيل من المترجمين وتحديدا في شمال المغرب

حاورته: إيمان السلاوي يكشف المترجم المغربي عمر بوحاشي، في هذا الحوار، آخر أعماله المترجمة التي تهم رواية "الكوخ" للكاتب الإسباني بيثينتي بلاسكو إيبانييث، وكذلك عن إصداراته الأخيرة، ويقدم رؤية عن واقع الكتب المترجمة من الإسبانية إلى العربية في المغرب التي يعتبرها ذات مستقبل واعد . والمترجم حاصل على جائزة الترجمة من المعرض الدولي للنشر والثقافة بالدار البيضاء سنة 2014، عن رواية بعنوان "لسيدة بيرفيكتا" للكاتب المخضرم، بينيتو بيريث غالدوس، يؤكد أن “الترجمة تخلق نوعا من التفاعل الثقافي، وفتح الحوار بين الحضارات، وتساهم في انفتاح الشعوب على بعضها لتتعارف أكثر”. ويعتبر بوحاشي من جيل المترجمين الذين نقلوا أهم الكتب الإسبانية التي ساهمت في تشكيل المغرب في المخيلة الإسبانية خلال العقدين الأخيرين. فقد ترجم رواية "عيطة تطاون" لبينيتو بيريث غالدوس التي تعتبر منعطفا في الروايات التي كتبت حول المغرب لأنها تميزت بواقعية لم يعتدها الإنتاج الأدبي الإسباني حول الجار الجنوبي للإسبان .

عرض لكتاب "رحلة في جماليات رواية أمريكا اللاتينية"

صدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق، 2007 تأليف د. ماجدة حمود   يجول هذا الكتاب عبر جماليات روايات من أمريكا اللاتينية، التي احتلت مكانا هاما في الساحة الثقافية العالمية، خاصة أن الباحث يحس بوشائج قربى مع هذا الأدب الذي يشاركنا في كثير من الهموم السياسية والاجتماعية والاقتصادية (التخلف، الاستبداد، الهيمنة الغربية...) ومع ذلك استطاع إبداع أدب أدهش العالم وما يزال! لهذا ليس غريبا أن يحصد أدباؤها كما كبيرا من الجوائز العالمية، قد منحت جائزة (نوبل) لشعراء (غابرييلا 1945، بابلو نيرودا 1971، أوكتافيو باث، 1990...) كما منحت لروائيين (ميغل أنخل أستورياس 1967، غابرييل غارثيا ماركيز 1982...) وقد رشح لهذه الجائزة أيضا كل (ماريو فارغاس يوسا) و (إيزابيل الليندي) بالإضافة إلى ذلك منحت جائزة ثرفانتس لعدد كبير منهم (كارنتيير 1977، بورخس 1979، أونيتي 1980، باث 1981، ساباتو 1984، فونتيس 1987، بوي كساريس 1990...) تحاول هذه الدراسة أن تجيب على التساؤل التالي: لِمَ تفوق هذا الأدب الذي ينتمي مثلنا إلى العالم الثالث، ووصل إلى العالمية رغم تخلف بلدانه؟ وقد اخترت تركيز الأضواء على جنس الرواية في أ...