التخطي إلى المحتوى الرئيسي

حوار مع المترجم السوري الشاب معاوية عبد المجيد

صدرت رواية "ظل الريح" للإسباني كارلوس رويث ثافون عام 2002 واستحوذت على مقعدها الدائم في قائمة الكتب الأكثر مبيعا محقّقةً أرقاماً قياسية في بريطانيا ومعظم دول أوروبا، وبعد أربعة عشر عاما من صدورها الأول وترجمتها لأغلب لغات أهل الأرض وجدت طريقها أخيراً إلى لغتنا العربية، “العرب” في هذا الحوار تستضيف المترجم السوري معاوية عبد المجيد الذي أضاف هذا الكتاب الساحر إلى المكتبة العربية، وكان لنا معه هذا الحوار.

أجرى الحوار عبدالله مكسور 
مع انتهاء الحرب العالمية الأولى انطلق دانيال بطل رواية "ظل الريح"، يتيم الأم برفقة أبيه الورّاق ليغوص في مقبرة الكتب القديمة في برشلونة باحثاً بحسب العهد بين الأجيال المتعاقبة عن كتابٍ يحفظه ويصونُه طوال عمره، الأقدار تدفع به نحو رواية “ظل الريح” لكاتب منسي أيضا اسمه خوليان كراكاس الذي يسحب جميع الأبطال إلى عوالمه الغامضة، فكان البطل الغائب الحاضر في كل ثنايا النص الذي يطوف على جغرافيات متعددة بين باريس وبرشلونة، فتختلط شخصيات عالم دانييل الحقيقية بالعالم المتخيّل لكاراكاس ومعها تبدأ عُقَدُ النص بالانحلال واحدةً واحدة، “ظل الريح” روايةٌ واحدة تضمّنَت روايتين، الأولى أفقية سارت مع الزمن الطبيعي بين الأجيال التي انطلقت من والد دانييل وانتهت بالحفيد الذي سار على خطى الجد، والثانية عمودية مختلطة الزمان والمكان بين كاراكاس وشخصياته الخيِّرة والشيطانية على حد سواء.

اللافت في هذا النص المترجم الصادر في 2016 أنَّ القارئ يشعر أنَّهُ أمام نص صادر أساسا بالعربية، للغتِهِ وبنيتِهِ السردية المحكمة وشخصياتِه المحفورة بشكل جيد وهوامشه التي أضافَها معاوية عبد المجيد لتعطي لقارئ العربية أبعاداً تاريخية وميثولوجية لفهم النص وفضاءاته السردية وعوالمه.
مرجع تاريخي
نبدأ الحديث مع ضيفنا المترجم السوري المقيم حاليا في فرنسا، لنسأله عن المغامرة في رحلة وقوع النص بين يديه لكاتب أسباني غير معروف على نطاق واسع في العالم العربي، ليقول “هذه الرواية طرقتْ بابي حرفيًّا، لم أكن قد سمعتُ بها من قبل لعدّة أسباب، من أهمّها أنّني متخصص في مجال الأدب الإيطالي. ولكنّني فيما بعد، عرجتُ إلى التخصّص في مجال أوسع وهو ‘الثقافة الأدبيّة الأوروبيّة’، فشاء القدر، وهو أبو الصدفة النبيل كما يقول دانيال بطل الرواية، أن يُرشّح اسمي لترجمتها بينما كنت، خلال ذلك، أبحث عن رواية معاصرة، تكون أبعادها أوروبيّة لوضع تخصّصي الجديد على المحكّ. وكان كذلك. بدأتُ قراءتها وملأتُ المفكّرة بالملاحظات عنها، مبهوراً بجمالها، ثم ترجمتها إلى أن صدرت في طبعة مشتركة بين منشورات الجمل ودار مسكلياني للنشر، وذلك بهدف إيصالها إلى أرجاء الوطن العربي كافة. كان قرار ترجمتها إلى العربية حتميا ومنطقيا، وكانت مغامرة حقيقية فعلا، أشبه بدخول غابة من الكلمات”.
حديث عبد المجيد يقودنا إلى سؤاله عن العقبات التي صادفته خلال الترجمة، ليلخصها في ثلاثة محاور: لغوي، تاريخي، أدبي. لذا عمد – كمترجم – إلى تطبيق نظرية “الترجمات المقارنة” التي حضَّرَ رسالة الماجستير على أساسها، فجاء النصّ العربيّ منقولاً بأفضل ما يمكن، لأنهُ وضع النصّ الإسباني الأصليّ قرب الترجمة الإيطالية والفرنسية والإنكليزية التي يتحدّثها إلى جانب الإسبانية، وضمن هذه الخلطة الاستثنائية لم يدع أي كلمة تفوته، وأمام العبارات المعقّدة كان يستعين بالترجمات الأخرى ليدرس كيفية نقلها إلى العربيّة، دون الانخداع بحلول المترجمة الإيطالية أو المترجم الفرنسي.
يتابع ضيفنا “في سياق آخر كان لا بدّ من الانخراط في قراءة استرشاديّة للتاريخ الإسباني المعاصر، وخصوصاً الحرب الأهلية التي تدور معظم أحداث الرواية حولها، كما كانت مسبّبًا لأحداث مهمّة أخرى، ومتابعة الحقبة الفرانكية وتأثيرها على أبطال الرواية نفسيًّا واجتماعيًّا، فضلاً عن التعمّق في جغرافيّة مدينة برشلونة التي تشكّل حجر أساس في المجريات، كالسجن والمقبرة ومركز المدينة والضواحي المتعددة، وأمام هذه المعطيات المتعددة بدأ بالمواظبة على تحليل الأبعاد الأدبيّة للروائي الإسباني لكشف الجانب الذي اعتمد على الأسلوبية التلغيزية والتعقيدية كإجابة على أسلوبٍ بريطانيٍّ رفيع، يحاكيه في رؤيةٍ تجمع بين البوليسيّ والأدبيّ ‘المجرم محقّق وكاره للكتب’، و هذا ما فرَض ضرورة التعرّف إلى كبار الشخوص والأدباء الإسبان، الذين لا يرد ذكرهم في الرواية على ألسنة أبطالها اعتباطيًّا”.
يؤكِّدُ معاوية عبد المجيد التزامه بتقنيات السرد والبناء الدرامي الأصلي لرواية “ظل الريح” التي لم تكن بحاجة إلى ترقيعٍ من هنا أو هناك، فالعمل جاء مصبوغا باللون الرمادي الذي أورده الكاتب، حديثه هنا يقودنا لسؤالِه عن المحاذير التي سكنَتهُ كمتلقِّ أوَّل للنص العربي باعتباره المترجم، ليقول “إنَّ الحفاظ على نبرة كل شخصية على حدة، … عمل فيه من الصعوبة بمكان، حيث يحدث غالبا أن يطغى صوت المترجم على جميع الشخصيات لتبدو وكأنها تتحدث بلسان واحد”. فالترجمة كما يراها عبد المجيد هي حالة تلقّ وإرسال في آن واحد، ولكن، خلال ذلك، على المترجم أن يقرأ النص ويكتبه ثانية مرات عديدة، ما قد ينتهي به إلى إغفال عامل الإثارة، وهي غفوة قاتلة عليهِ أن يهبها جلّ انتباهه.
المهمة الأولى
النص العربي لرواية “ظل الريح” جاء في نقاط ارتكازٍ عديدة مسنودا بلغة شعرية عربية بالغة العذوبة، ليحيل ضيفنا هذا الإحساس إلى أنَّ اللغة العربية تعطي المترجم فسحة لإظهار مفاتنها وقدرة السرد الروائي المُحكَم على ارتداء الثوب الذي يريد، فضلاً عن أنَّ الأصل الإسباني مبني بأسلوبٍ رشيق وشعري في عدة أماكن، وهذا ما فرَضَ الحفاظ على “شعرية” النص وتكثيفها في عربية “شعرية” دون الوقوع في “الشاعريّة” والتنميق المصطنع، ووجب، كما يشير ضيفنا، الحفاظ أيضا على نكهة التعبير، فنحن نقرأ الرواية عبر بطلها الذي يستحضر ذكرياته، وهو بالتالي يستحضرها باسترخاءٍ يسمح له بالنشوة الأدبية.
وبالتالي فإن المقاطع التي كُتبت بجمالية لغوية إنما الغاية منها إيجاد حالة روحانيّة تخفف من قسوة الواقع وعنصر التشويق، لنصل جميعا في نهاية المطاف إلى رواية متوازنة ومنسوجة بإتقان.
القراءة فن في طريقه إلى الاندثار؟”، هذه جملةٌ وردت في “ظل الريح” عبر إحدى الشخصيات، وهذا المفصل يقودنا لسؤال معاوية عن رؤيته لحال القراءة في العالم العربي الذي يصفُهُ بأنهُ يعاني الأمرَّين، وهو أمر مفهوم نظرا إلى ما نواجهه من حروب طاحنة وأوضاع اقتصادية قاسية وإحساس دائم بأنّ المستقبل سيء جداً، فما نعانيه اليوم من ويلات بحسب ضيفنا يعود إلى عدم اهتمامنا بالقراءة، بشكل أو بآخر، وفي ذات السياق يقعُ حال الترجمة الذي يكابد الصعاب أيضا بالرغم من وفرة المترجمين الذين تُشكِّلُ لهم الترجمةُ هاجسا حياتيّا بالدرجة الأولى، فالمهمة الأولى التي يراها ضيفنا اليوم للنهوض بواقع الترجمة هي تنظيم الترجمة في هذا العالم العربي مترامي الأطراف، والاهتمام بشتّى آداب العالم، واعتبار الترجمة الأدبية حرفة مبنية على علم وليست ولعا بهواية النقل أو قضاء للوقت، وهذا يترتّب عليه الاهتمام باعتبارات أخرى، لا سيّما الاقتصاديّة منها كي يتفرّغ المترجم إلى حرفته كليا فيقدّم إنتاجا يستحقّ عليه الثناء أو الهجاء.
معاوية عبد المجيد: مترجم سوري من مواليد دمشق 1985، درس الأدب الإيطالي في جامعة سيينا الإيطالية، وحصل على درجة الماجستير في “الثقافة الأدبية الأوروبية” عن قسم الترجمة الأدبية من جامعة بولونيا الإيطالية وجامعة مولوز الفرنسية وصدر لهُ العديد من الترجمات الأدبية الروائية.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا