التخطي إلى المحتوى الرئيسي

غابرييل غارثيا ماركيث في الذاكرة..

غابرييل غارثيا ماركيث في «جمهورية الآداب العالمية»:
شكير نصرالدين

عاشها ليحكيها، حياته الخاصة وحياة الآخرين من حوله، وفي أفقه. لأنه جابها طولا وعرضا، وسبرها عمقا: إنها حياة/حيوات واحد من أكبر أدباء القرن العشرين، بل والإنسانية، الذي وصلت معه الرواية إلى أعلى قممها: الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز (1927 ـ 2014).
حياة تقلَّب فيها بين الخصاصة والوفرة، والشهرة التي أطبقت الآفاق، من آراكاتاكا، إلى الإليزيه وهافانا، رفقة فرانسوا ميتران أو فيديل كاسترو. شهرة وإن كانت سببا في غير قليل من الحرج وجرَّت عليه الكثير من اللوم.
تقلب بين حِرف عديدة جامعها المشترك هو الكتابة:في مجال الصحافة والسيناريو للتلفزيون والسينما، في السياسة ملتزما بقضايا الطبقات المسحوقة في أمريكا اللاتينية أو عبر العالم، مدافعا عن الشعوب المستضعفة، التي رزحت لعقود تحت جبروت الدكتاتوريات المتسلطة، المتعاقبة على الحكم في تلك الأراضي الشاسعة جنوب «العالم الجديد». أرض الأساطير والخرافات، أرض الأعراق والقوميات واللغات المتعددة.
تعددية داخل الوحدة، استمرارية التاريخ البعيد والقريب، منذ السكان الأصليين، الهنود، مرورا بالوافدين الجدد، من مستكشفين إيبريين، إلى المرحَّلين قسرا من أفريقيا، ضحايا تجارة العبيد البربرية.
هذه المكونات: الهندي ـ الإيبيري ـ الأفريقي هي ما جعل من أمريكا اللاتينية بوتقة امتزجت فيها ثقافات عديدة، أزتيك، إنكا، مايا، كيتشه، اسبانية، برتغالية وفرنسية، لهجات كريولية؛ وفنون كتابة مختلفة: مذكرات المستكشفين والرحالة والمبشرين الأوائل، وفنون الرواية والقص كما عرفها الغرب الأوروبي: أدب العادات، روايات الفروسية، واقعية بلزاك، وتيار الوعي المتصل.


من رحم هذا الإرث الحضاري واللغوي والجمالي المتنافر، إضافة إلى الروابط التاريخية والاجتماعية، ظهرت أسماء وازنة في مجال الرواية والقصة، من خمسينيات القرن الماضي إلى العصر الحاضر:بورخيس، كاربونتيي، كارلوس أونيتي، كارلوس فوينتس، خوليو كورثزار، فارغاس يوسا: ولغابرييل غارسيا ماركيز مكانته الرفيعة في هذا المشهد الأدبي بامتياز.
وبقدر ما كان على غارسيا ماركيز العمل ميدانيا من خلال اشتغاله الإعلامي والسياسي على النهوض ببلاده والخروج بها من حال التخلف والتبعية إلى حال الرقي والاستقلال، اهتم شأن مجايليه بالكتابة من خارج قوانين الكتابة كما هي في غرف الغرب الأوروبي المستعمِر السابق، وإن لم يتم القطع مع الواقعية كما هي معروفة عند بلزاك ومن جاء بعده، فإنه اجترح لنفسه أسلوبا يجمع بين القَدامة والغرابة، وكان ذلك ما اصطلح عليه النقاد الغربيون بـ»الواقعية السحرية»، مع ما في هذا التوصيف من رغبة في ربط ذلك «الهامشي» بـ «المركزي الأوروبي» المتمحور على ذاته، ومع ذلك لهذا الربط مظهره الإيجابي، أي النظر إلى الآداب العالمية فيما يجمعها، داخل الحوارية الكبرى، التي سوف نأتي على التفصيل فيها لاحقا.


من صلب هذا الزخم الرمزي منه والواقعي، الأسطوري والعقدي، عمد غارسيا ماركيز إلى إعادة خلق الواقع بواسطة رموز خارقة للطبيعة، وهذا الإجراء الجمالي وليد أمريكا اللاتينية التي كانت على مدى العصور بلاد الأحلام والخوارق، والملاحم واليوتوبيا؛ مستلهما الحكايات الشفوية حمَّالة المعتقدات الشعبية الخرافية، وتحويلها إلى حكايات قصصية وروائية، مستثمرا مرئياته ومرويات الآخرين المفعمة بالخرافات الخاصة بشعوب الكرايبي ذات الأثر الأفريقي، وحكي الواقع بطريقة موغلة في التضخيم والمبالغة، وحمل الواقع إلى حدود الخيال القصوى.
ناقلا قريته «أراكاتاكا» من الواقع إلى «ماكوندو» العجائبية، تلك القرية التي عاشت «مئة عام من العزلة»، ومن هنا الرهان الذي حاول الكثيرون السير على هديه، أي الوصول إلى العالمية من المحلية.


لكن الأمر ليس بهذه السهولة، فليس كل من استلهم قريته، وصل إلى أركان العالم الأربعة.
فنجاح غارسيا ماركيز لا يعود إليه وحده، صحيح أنه كان بمثابة «المحكوم عليه بالكتابة»، لكن الأصح أن أعماله هي ثمرات تطور للجنس الروائي منذ العصور الغابرة إلى عصره، ونقصد بذلك، أن الكاتب، الروائي في الحالة التي تخصنا، لا يكتب من عدم، فهو جزء من تاريخ، تاريخ محلي، وآخر عالمي، من منظومات رمزية قريبة وأخرى بعيدة، لا يشك في وجودها، وبل تتسرب إلى أعماله في غفلة منه.


فإن نحن نظرنا إلى أعمال ماركيز في معظمها، نجد فيها الأسطورة الهوميروسية، وقصص النشأة والتكوين، فيها يلتقي الحكي الشفهي بالتاريخي، بألف ليلة وليلة، فيها رواية البطولة والفروسية السرفانتيسية، فيها مبالغات رابليه وسخريته، فيها يحضر الدين والميتافيزيقا، وصف شخصيات دكتاتورية، فيها كلام المنجمين والسحرة، فيها دمج لكلام العامة والآلهة، ذكريات الشخصيات الحكائية وأحلامها، كلام الأفراد وكلام الأسطورة الجماعي، وبكل هذه العناصر مجتمعة، استطاع ماركيز الوصول إلى القراء في أصقاع العالم، والحصول عن جدارة واستحقاق على جائزة نوبل للآداب العام 1982.


في هذا السياق، إذا كانت أمريكا اللاتينية قد أنجبت بورخيس، وكورثزار، ويوسا وأوصلتهم إلى العالمية، بل والتأثير ليس فقط في آداب بلدانهم، بل في آداب باقي بلاد العالم حتى اليوم، لماذا لم يفرز الوطن العربي، كتَّابا بهذا القدر والعدد، رغم الكثير من عوامل التشابه: الفكر الأسطوري، الخرافي، الماضي الاستعماري، الدولة الوطنية، نظم الحكم الاستبدادي في الكثير من الأقطار على امتداد القرن العشرين إلى اليوم؟ قد نجد شيئا من التأسي في حالة نجيب محفوظ المفردة، وفي هذا الصدد هناك الكثير من جوانب الشبه مع ماركيز، فضلا عن التتويج العالمي، فإن الكاتب المصري استطاع، بأسلوبه مع اختلاف في السياقات، الوصول إلى العالمية من المحلية، وبدوره جعل من القاهرة وغيرها من المدن المصرية، بمثابة عوالم خيالية مصغرة، فإذا كانت للكولومبي «مئة عام من العزلة» فإن لابن أرض الكنانة «أولاد حارتنا» التي في كثير من جوانبها، تنبني على حكاية النشأة والتكوين، وترصد بطريقتها، لنوع من الشخصية المستبدة، والدكتاتورية.


وهذا ما أومأنا إليه سابقا بالحوارية الكبرى، فالأدب الجدير بهذا الاسم بحق، هو الذي يُكتب في العالم بلغات مختلفة، شأن الموسيقى الأوركسترالية، أدوات موسيقية متنوعة، من أشكال ومواد مختلفة، لكنها متناغمة، قد يعزفها الياباني والمصري، ويؤلفها المغربي.
في مثل هذا الاختيار الجمالي، لا يبدو غارسيا ماركيز، في ذكرى وفاته الأولى، حالة منفردة، بل هو إلى جانب غونتر غراس، أو كونديرا، أو اسماعيل كداري، أو عبد الرحمن منيف، أو ادريس الشرايبي، أو غيرهم، مواطنون مبدعون في «جمهورية الآداب العالمية» وفق توصيف باسكال كازانوفا
.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصص قصيرة جدا

إدواردو غاليانو* ترجمة: أسامة أسبر العالم صعد رجل من بلدة نيغوا، الواقعة على الساحل الكولومبي، إلى السماء. حين عاد وصف رحلته، وروى كيف تأمل الحياة البشرية من مكان مرتفع. قال: نحن بحرٌ من ألسنةِ اللهب الصغيرة. أضاف: العالم كومةُ من البشر، بحر من ألسنة اللهب الصغيرة. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.   العنب والخمر على فراش الموت، تحدث رجل يعمل في الكروم في أذن مرسليا. قبل أن يموت كشف السر هامساً: "إن العنب مصنوع من الخمر." هذا ما روته لي مارسيلا بيريث-سيلبا، وبعدها فكرتُ: إذا كان العنب مصنوعاً من الخمر، فربما نكون الكلمات التي تروي من نحن. فن للأطفال كانت تجلس على كرسي مرتفع أمام صحن من الحساء على مستوى العين. أنفها مجعد، أسنانها محكمة الإغلاق، وذراعاها

EL TIEMPO ENTRE COSTURAS

رواية اسبانية بنكهة مغربية أصبحت رواية الأديبة الإسبانية ماريا دوينياس "الوقت بين ثنايا الغرز"، التي تدور أحداثها في مدينة طنجة المغربية، إلى ظاهرة حقيقية حيث حققت مبيعات تجاوزت المليون نسخة، كما ترجمت لعدة لغات بينها الإنجليزية والألمانية كما تحولت إلى مسلسل تليفزيوني ضخم، سوف يبدأ عرضه مطلع 2012. وامتد نجاح الرواية ليتجاوز حدود إسبانيا حيث من المقرر أن تظهر ترجمتها الإنجليزية في الولايات المتحدة في نوفمبر المقبل، وفي نفس الشهر سوف يتم تكريم المؤلفة، في معرض جوادالاخارا الدولي للكتاب في المكسيك. وفي تصريحات لوكالة (إفي) قالت الأديبة دوينياس "أنا سعيدة لكل هذا النجاح الذي حققته الرواية، لأنه يؤكد أنها تتناول أحداثا ذات طبيعة كونية. تدور أحداث الرواية حول سيرا كيروجا، مصممة أزياء شابة، تضطر لمغادرة مدريد، بحثا عن حبيب مجهول، إلى أن تعثر عليه في مدينة طنجة التي كانت واقعة في تلك الأثناء تحت الاحتلال الإسباني، ويحاولان الاستقرار هناك. ومرة أخرى تجد سيرا نفسها مضطرة للرحيل إلى تطوان، والتي كانت أيضا تحت الاحتلال الإسباني (1902-1956)، هربا من الديون والشعور بالو

ظننتُ أنّ أحداً لم يعد يقرأني

  قصة: خايمي بيلي * ترجمة عن الإسبانية :  غدير أبو سنينة   سيّارة أجرة تمرّ أمام جدارية في العاصمة البيروفية ليما، آذار/ مارس 2022  عند وصولي إلى مدينة الغبار والضباب (يقصد ليما)، أعلن أحد عناصر طاقم الطائرة عبر مُكبِّر الصوت، وبنبرة مُبتهجة، كأنّما ينقل لنا أخباراً طيّبة، أننا سنستخدم دَرَجاً قديماً للهبوط، وسنضطرّ لحمل أمتعتنا واستقلال الحافلة، لنمارس رقصة الكومبيا عند كلّ منعطف نمرّ به، حتى من دون وجود موسيقى في الخلفية: يا مرحباً بكم في الفوضى ! ما إن يصل المسافرون، حتى يسيروا بأقصى سرعة كأنهم يُشاركون في مسابقة رياضية، كأنّ هناك جائزةً تُمنح لمن يصل أوّلاً إلى مكتب ضابط الهجرة. والحقيقة أنّ أحداً لا يصل أوّلاً، إذ يُصادفهم طابور طويل عريض مُتعرّج، يزحف مثل أفعى تُحتضر. لا جوائز، الجميع معاقَب بسبب البطء المُستفزّ لمن ينفّذون القانون بلا مبالاة .  بعد اجتياز عدّة ضوابط صارمة، يستقبلنا السائق بحذَر ويقودنا إلى الشاحنة المُدرَّعة، ذات النوافذ المُظلَّلة، يعرفُني باقي السائقين، يُحيُّونني بصُراخهم، يتبعونني، الحمقى، يعرضون علي خدماتهم، ويطلبون منّي بقشيشاً. أبدو لهم شخصاً فا